مدخرات الغيب ويستأنس بجنات المشاهدة والمداناة ، التي هي عيون صفات الذات ، تجري منها أنهار الأوصاف الأزلية ، تسقيه من مروقات سواقي الجلال والجمال ، خالدين فيها بلا مكث ، ولا قطع ، ولا خطر الزمان ، ولا حجت المكان ، ولا تغير بعد ذلك نعم هذه النعمة من المنعم الكريم الوهّاب للعالمين ، أي : الواقفين بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض في العهود ، ولا سهو في الشهود.
قال الأستاذ في قوله : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي : بردّهم إلى شهود الربوبية وما سبق بهم عين الحسنى في سابق القسمة ، وجنات تجري من تحتها الأنهار مؤجلا في الفراديس ، ومعجلا في روح المناجاة وتمام الأنس.
قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) وإنّ كلام الحق سبحانه صفته الأزلية ، مبين حقائق أمور الكونين ، لمن له أهليته وأهل القرآن من كان روحه جلالية ، وقلبه جماليّا ، ونفسه مطمئنة ، وسره قابل كل إشارة من الحق ، ولهذه الجنود اصطفائية بالمعارف والكواشف ، وإذا كان الأمر كذلك ، يتجلى الحق في كلامه لأهل القرآن بنوريين له مراد الله من خطابه يهديه إلى كل صواب ؛ لأنّه مفتاح كنز القدم ، من وافقه يخرج له عروس الصفة القديمة من حجاب الحروف بكل مراد وصول به (١).
قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ : إنّ الله تعالى يتجلى لعباده في القرآن ومن له أهلية الصفة بإدراك بيانها ، وله أهلية الذات بكشف جلاله تعالى.
قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أهل القرآن أهل الله وخاصته» (٢).
بقدر ترقي المقامات عنهم سر الخطاب من كتاب الله ، قوم يسمعون بأسماع العقول أمرا واعتبارا ، وقوم يسمعون بأسماع القلوب شوقا وحلاوة ، وقوم يسمعون بأسماع الأرواح محبة ومعرفة وعشاقا وأنسا ، وقوم يسمعون بأسماع الأسرار بملاحظة الأنوار كشفا وبيانا ، ولم ينكشف هذه الأسرار والوقائع إلا للناس ، ومن لم يكن إنسانا متخلقا بخلق آدم عليهالسلام وما بقي من ميراثه من علم الأسماء والصفات يكون من النسناس لمن يلاحظ مشاهدة القرآن وأسراره ، فإنّ الله تبارك وتعالى أعلمنا أنه بيان للناس لا للنسناس ، والناس من له وصف ما ذكرنا ، ويبقى بالله مما دون الله بما صرح الله في بيانه قال : (بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ
__________________
(١) وقيل : بيان لقوم من حيث أدلة العقول ، والآخرين من حيث مكاشفات القلوب ، والآخرين من حيث تجلّي الحق في الأسرار. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٩١).
(٢) رواه أحمد في المسند (٣ / ٢٤٢) ، وابن ماجه (١ / ٧٨) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٩ / ٤٠).