ذلك التأويل. وما حمله على هذا إلّا خوفه من ألسنة العامة وسباب الجهّال. وهو مما لا قيمة له عند العارفين. فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد القرون الثلاثة. وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله ، وشبهة العدول عما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم. فلم الإصرار على تحسين هذه البدعة؟
يقول بعض الناس : إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها. وهي ما رواه الترمذيّ (١) بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال : إن رجلا ضرير البصر أتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : ادع الله أن يعافيني. فقال : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال : فادعه. قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ، ويدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة. يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي. اللهم فشفعه فيّ. قال الترمذيّ : وهو حديث حسن صحيح غريب ، ونقول أولا : قد وصف الحديث بالغريب ، وهو ما رواه واحد. ثم يكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به ، أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله ، وهم أعلم منا بما يجب الأخذ به من ذلك. ولا وجه لابتعادهم عن العمل به ، إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي. كما قال عمر (٢) رضي الله عنه ، في حديث الاستسقاء : إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلىاللهعليهوسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا ، قال ذلك ، رضي الله عنه ، والعباس بجانبه يدعو الله تعالى ، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون ، لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ولا يقول (كنا نستسقي بنبيك) وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه ، بل ويكون من الأعلى للأدنى ، كما ورد في الحديث. وليس فيه ما يخشى منه ، فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حيّ ، كلاهما عبد يسأل الله تعالى ، والشريك في الدعاء شريك في العبودية ، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٨٠] ، ثم المسألة داخلة في باب العقائد ، لا في باب الأعمال. ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال (هل يجوز أن نعتقد بأن واحدا سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز)؟ أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة من عقائد المشركين ، وقد نعاها عليهم في قوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ
__________________
(١) أخرجه في : الدعوات ، ١١٨ ـ باب حدثنا محمود بن غيلان.
(٢) أخرجه البخاري في : الاستسقاء ، ٣ ـ باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء ، إذا قحطوا ، حديث ٥٧٢.