أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي مرنوا ومهروا فيه وقوله عز شأنه (لا تَعْلَمُهُمْ) دليل لمرانتهم عليه ، ومهارتهم فيه ، أي يخفون عليك ، مع علوّ كعبك في الفطنة وصدق الفراسة ، لفرط تأنقهم وتصنعهم في مراعاة التقية ، والتحامي عن مواقع التهم.
قال في (الانتصاف) وكأن قوله تعالى : (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه صلىاللهعليهوسلم لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به. انتهى.
وقوله تعالى : (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق ، أي لا يعلمهم إلا الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر ، وإظهار الإخلاص.
وقوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) للمفسرين في المرتين وجوه : إظهار نفاقهم وإحراق مسجد الضرار أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الزكاة لما أنهم يعدّونها مغرما بحتا ، ونهك الأبدان ، وإتعابها بالطاعات والفارغة عن الثواب.
وقال محمد بن إسحاق : هو ـ فيما بلغني عنهم ـ ما هم فيه من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردّون إليه ، عذاب الآخرة ، ويخلدون فيه.
قال أبو السعود : ولعل تكرير عذابهم ، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق ، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير. كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٣] ، أي كرة بعد أخرى ، لقوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ ..) الآية [التوبة : ١٢٦].
تنبيه :
لا ينافي قوله تعالى : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] ، لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب ، على التعيين ، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء. وشاهد هذا بالصحة ، ما رواه الإمام أحمد (١) عن جبير
__________________
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٤ / ٨٢.