١ ـ والإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية. فمعنى قولك : أدركته ببصري ، معنى رأيته. لا فرق إلا في اللفظ. أو هما أمران متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر ، فلا يجوز : رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه. فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة ، في جميع الأوقات ، لأن قولك : فلان تدركه الأبصار ، لا يفيد عموم الأوقات ، فلا بد أن يفيده ما يقابله ، فلا يراه شيء من الأبصار ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، لما ذكرنا.
٢ ـ ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى ، فإنه ذكره في أثناء المدائح : وما كان من الصفات عدمه مدحا ، كان وجوده نقصا ، يجب تنزيه الله عنه ، فظهر أنه يمتنع رؤيته ، وإنما قلنا : (من الصفات) احترازا عن (الأفعال) ، كالعفو والانتقام ، فإن الأول فضل ، والثاني عدل ، وكلاهما كمال. والجواب :
أما عن الوجه الأول في الاستدلال بالآية فمن وجوه :
الأول ـ أن الإدراك هو الرؤية ، على نعت الإحاطة بجوانب المرئيّ ، إذ حقيقته النيل والوصول ، و (إنا لمدركون) أي ملحقون ، و (أدركت الثمرة) أي : وصلت إلى حد النضج و (أدرك الغلام) أي بلغ. ثم نقل إلى الرؤية المحيطة ، لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة ، أخص مطلقا من الرؤية المطلقة. فلا يلزم من نفي المحيطة عن الباري سبحانه ، لامتناع الإحاطة ، نفي المطلقة عنه. وقوله (لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر) ممنوع ، بل يصح أن يقال : رأيته وما أدركه بصري. أي : لم يحط به من جوانبه ، وإن لم يصح عكسه.
الثاني ـ أن (تدركه الأبصار) موجبة كلية ، لأن موضوعها جمع محلّى باللام الاستغراقية. وقد دخل عليها النفي فرفعها. ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية. وبالجملة فيحتمل قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) إسناد النفي إلى الكل ، بأن يلاحظ أولا دخول النفي ، ثم ورود العموم عليه ، فيكون سالبة كلية. ونفي الإسناد إلى الكل بأن يعتبر العموم أولا ، ثم ورود النفي عليه ، فيكون سالبة جزئية. ومع احتمال المعنى الثاني ، لم يبق فيه حجة لكم علينا. لأن أبصار الكفار لا تدركه ، إجماعا. هذا ما نقوله : لو ثبت أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق ، وإلا عكسنا القضية ، فادّعينا أن الآية حجة لنا وقلنا : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) سالبة مهملة في قوة الجزئية ، فالمعنى : لا تدركه بعض الأبصار ، وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات