ومن الناس من ذهب إلى أن الإدراك ليس هو مطلق الرؤية ، بل معرفة الكنه أو الإحاطة.
قال ابن كثير : قال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك. فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفيّ ما هو؟ فقيل : معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلا هو ، وإن رآه المؤمنين ، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته ، فالعظيم أولى بذلك ، وله المثل الأعلى.
وقال آخرون : الإدراك أخص من الرؤية ، وهو الإحاطة. قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية ، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم. قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠]
وفي صحيح مسلم (١) : لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك. ولا يلزم منه عدم الثناء ، فكذلك هذا. انتهى.
وقال النسفي : تشبث المعتزلة بهذه الآية لا يستتب ، لأن المنفيّ هو الإدراك لا الرؤية ، والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئيّ وحدوده ، وما يستحيل عليه الحدود والجهات ، يستحيل إدراكه ، لا رؤيته ، فنزّل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم ، ونفى الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود ، لا يقتضي نفي العلم به ، فكذا هذا. على أن مورد الآية ، وهو التمدح ، يوجب ثبوت الرؤية ، إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته. لا تمدح فيه ، لأن كل ما لا يرى لا يدرك ، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية ، إذ انتفاؤه مع تحقق الرؤية ، دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات ، فكانت الآية حجة لنا عليهم. انتهى.
وقد جود العلامة العضد في (المواقف) البحث في هذه الآية ، ونقل شبه المنكرين فيها ، وأجاب عنها. ونحن ، لنفاسته ، ننقل كلامه مع شرحه للسيد الشريف قدسسره ، وبعض حواشيه ، ونصه :
الأولى ـ من شبه المنكرين للرؤية السمعية قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) :
__________________
(١) أخرجه مسلم في صحيحه في : الصلاة ، حديث ٢٢٢ ونصه : عن عائشة قالت : فقدت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة من الفراش. فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد ، وهما منصوبتان ، وهو يقول «اللهم! أعوذ بك برضاك من سخطك. وبمعافاتك من عقوبتك. وأعوذ بك منك. لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك».