وقيل : المراد بالجن الملائكة ، فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم بنات الله. وكلا الأمرين موجب للشريك. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد ، فيشاركه في صفات الألوهية. وتسمية الملائكة (جنّا) حقيقة ، لشمول لفظ الجن لهم. وقيل : استعارة. أي : عبدوا ما هو كالجن ، فيكونه مخلوقا مستترا عن الأعين.
وذهب بعض السلف ـ منهم الكلبي ـ إلى أنها نزلت في الثنوية القائلين بأن للعالم إلهين : أحدهما خالق الخير وكل نافع. وثانيهما خالق الشر وكل ضار. ونقله ابن الجوزيّ عن ابن السائب. وحكاه الفخر عن ابن عباس رضي الله عنه ، وأنه قال : نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله وإبليس أخوان. فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات ؛ وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور.
قال الرازي : وقول ابن عباس المذكور أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية ، وذلك ، لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة.
وقوّى ابن عباس قوله المذكور بقوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨]. وإنما وصف بكونه من الجن ، لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، والملائكة والروحانيون مستترة من العيون ، فلذلك أطلق لفظ الجن عليها.
قال الفخر : هذا مذهب المجوس. وإنما قال ابن عباس : هذا قول الزنادقة ، لأن المجوس يلقبون بالزنادقة ، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى ب (الزند) ، والمنسوب إليه يسمى (زندي) ، ثم عرّب فقيل : (زنديق) ، ثم جمع فقيل : (زنادقة). واعلم أن المجوس قالوا : كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من (يزدان) ، وجميع ما فيه من الشرور فهو من (أهرمن) (وهو المسمى بإبليس في شرعنا) ثم اختلفوا ، فالأكثرون منهم على أن (أهرمن) محدث ، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة. والأقلون منهم قالوا : إنه قديم أزليّ. وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم ، فخيرات هذا العالم من الله تعالى ، وشروره من إبليس. فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وإنما جمع حينئذ في الآية ، لكونه مع أتباعه كأنهم معبودون.
ثم قال الرازيّ : وقوله تعالى (وَخَلَقَهُمْ) إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكا ، وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم ، بل هو محدث. إذا ثبت هذا فنقول : إن كل محدث فله خالق