ولما ذكر تعالى هذه البراهين ، من دلائل العالم العلوي والسفلي ، على عظيم قدرته ، وباهر حكمته ، ووافر نعمته ، واستحقاقه للألوهية وحده ـ عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد عليه بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)(١٠٠)
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أي : جعلوهم شركاء له في العبادة. فإن قيل : فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن ، وأمرهم بذلك. كقوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللهُ. وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ، وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) [النساء : ١١٧ ـ ١١٩]. وكقوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ...) [الكهف : ٥٠] الآية. وقال إبراهيم لأبيه : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) [مريم : ٤٤]. وكقوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يس : ٦٠ ـ ٦١] وتقول الملائكة يوم القيامة (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤١].
(وَخَلَقَهُمْ) حال من فاعل (جَعَلُوا) ، مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان ، باعتبار علمهم بمضمونها. أي : وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن (وليس من يخلق كمن لا يخلق)! وقيل : الضمير للشركاء. أي : والحال أنه تعالى خلق الجن ، فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له؟ كقول إبراهيم : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦]. أي : وإذا كان هو المستقل بالخالقية ، وجب أن يفرد بالعبادة ، وحده لا شريك له.
تنبيه :
ما ذكرناه من معنى قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أنهم أطاعوا الجن في عبادة الأوثان ، هو ما قرره ابن كثير ، وأيده بالنظائر المتقدمة ، ونقل عن الحسن ، فتكون الكناية لمشركي العرب.