قال البغويّ : وفي القصة أن مالك بن الصيف ، لما سمعت اليهود منه تلك المقالة ، عتبوا عليه ، وقالوا : أليس الله أنزل التوراة على موسى ، فلم قلت : ما أنزل الله من شيء؟ فقال مالك بن الصيف : أغضبني محمد ، فقلت ذلك! فقالوا له : وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق! فنزعوه عن الحبرية. وبعد الوقوف على ذلك ، فلا معنى لاعتراض بعضهم بأن مالك بن الصيف كان مفتخرا بكونه يهوديا متظاهرا بذلك ، ومع هذا المذهب لا يمكنه البتة أن يقول : ما أنزل الله على بشر من شيء ، لأنه تبين أنه قال ذلك متغيظا ، وقد أخذ الغضب منه مأخذه عنادا ومكابرة ، توصلا لدفع ما يريده. وقد يبلغ الحمق بصاحبه إلى حدّ يتبرأ فيه من مذهبه ومعتقده ، إغاظة لخصمه على زعمه. وبوادر اللسان في حق المولى تعالى وتقدس ، مما لا تغتفر ، ولذا بين تعالى جهل ذاك القائل بقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
قال العلّامة البقاعيّ : لأن من نسب ملكا تام الملك إلى أنه لم يبث أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه ، وما يسخطه ليجتنبوه ، فقد نسبه إلى نقص عظيم. فكيف إذا كانت تلك النسبة كذبا؟ وإنما أسند إلى الكل ـ والقائل بعضهم ـ لأنهم لم يردّوا على قائله ، ولم يعاجلوه بالأخذ على يده ، تهويلا للأمر ، وبيانا لأنه يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها ، ويتعرف أمورها ، فمن طعن فيها أخذ على يده بما تصل إليه قدرته ، فقال مشيرا إلى اليهود قائلو ذلك. ملزما لهم بالاعتراف بالكذب ، أو المساواة للأمّيين في التمسك بالهوى دون كتاب ، موبخا لهم ، ناعيا عليهم سوء جهلهم ، وعظيم بهتهم ، وشدة وقاحتهم ، وعدم حيائهم (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى)؟ أي : قل لهؤلاء السفهاء الذين تجرأوا على هذه المقالة ، غير ناظرين في عاقبتها ، وما يلزم منها ، توبيخا لهم ، وتوقيفا على شنيع جهلهم (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أي : أوراقا مفرقة ، لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم ، (تُبْدُونَها) للنّاس أي : تظهرونها للناس ، (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي : منها مما تريدون به تبديل الدين. هذا على قراءة الفوقانية. وعلى قراءة التحتانية التفات مؤذن بشدة الغضب ، مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحيى من ذكره ، فكيف بفعله. وقوله (وَعُلِّمْتُمْ) أي : أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ) أي : أيها اليهود من أهل هذا الزمان (وَلا آباؤُكُمْ) أي : الأقدمون. انتهى كلام البقاعيّ رحمهالله تعالى. وفي قوله : (وإنما أسند إلى الكل ..) إلى آخره ، نظر. لأن إسناده ليس إليهم ، لأنهم رضوا به ، لأن القصة السالفة تدل على خلافه.