الكتب من السماء ، وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، لأنه من البشر ، كما قال تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [يونس : ٢]. وكقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤]. وكذا قالوا هنا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ). فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى ، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيبا لقولهم ، وإيقافا على عنادهم. ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف ، وتسليم قريش أنهم أهل كتاب ، وأنهم أعلم منهم لأجله ، مما يوجب اعترافهم بحقية التوراة ، وأنها منزلة من لدنه تعالى ، وعلى هذا القول ، فالقراءة بالياء التحتية ظاهرة. وعلى قراءة الخطاب ، فهو التفات من خطاب قوم إلى خطاب قوم آخرين. وهو التفات عند الأدباء ـ حكاه الخفاجي ـ وإنما جعل من الانتقال عن خطابهم إلى خطاب اليهودية ، تعريضا لهم بأن إنكارهم إنزال الله تعالى من جنس فعل هؤلاء بالتوراة في البطلان ، وعدم الإسناد إلى برهان. ثم القول بأن الخطاب في (عُلِّمْتُمْ) لمؤمني قريش. لا يقتضيه السياق ولا السباق ، وفيه تفكيك للنظم الجليل ، كالقول بأنه اعتراض للامتنان على النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأتباعه ، لهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن. بل الخطّاب فيه كسابقه ، والمراد بتعليمهم ، وهم مشركون ، ما يسمعونه ويتلقفونه من النبيّ صلىاللهعليهوسلم وصحابته ، من فرائد الوحي وفوائده ، مما لا يرتاب في تنزيلها ، كما أوضحناه قبل.
القول الثاني ـ إن هذه الآية مدنية النزول. ولا يرد أن هذه السورة مكية ، ومناظرات اليهود كانت في المدينة ، لأن كثيرا من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية ، وحينئذ فقولهم (هذه السورة مكية) أي : إلا ما استثني مما ألحق بها ، كما أوضحه السيوطيّ في (الإتقان) وساق له شواهد. وقد أشرنا إلى ذلك أول هذه السورة ، فتذكر!
ثم القائلون بأنها مدنية ، منهم من قال : نزلت في طائفة من اليهود ، أو في فنحاص ، أو في مالك بن الصيف. أخرج ابن جرير من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قالت اليهود : والله ما أنزل الله من السماء كتابا ، فأنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ـ مرسلا ـ قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف ، فخاصم النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ـ وكان حبرا سمينا ـ؟ فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء! فقال له أصحابه : ويحك! ولا على موسى؟ فأنزل الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) .. الآية
.