الشمس من سمت الرأس ، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام ، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر ، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى. إلا أن الفرق بين شمس العلم ، وشمس العالم ، أن شمس العالم الجسمانيّ لها في الارتقاء والتصاعد حدّ معين ، لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود. وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد ، فلا نهاية لتصاعدها ، ولا غاية لازديادها. فقوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات. وقوله (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) إشارة إلى درجات أنوار التجلي ، وشروق شمس المعرفة والتوحيد. انتهى.
الثالثة ـ ذكر تعالى الإراءة في هذه الآية مجملة ، ثم فصلها بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦)
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) قال المهايميّ : لما رأى ـ يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ الملكوت ، وأيقن أن شيئا منها لا يصلح للإلهية ، أراد الرد على قومه في اعتقاد إلهيتها لخستها ، باعتبار افتقارها في أفعالها إلى أجسام لها دناءة الأفول ، وإن كانت علوية ، وكذا في اعتقاد إلهية تلك الأجسام. كما رد عليهم في اعتقاد إلهية الأصنام ، فلتظهر ظهور الكواكب التي كانوا يعبدونها. انتهى.
وبالجملة ، فالآية بيان لكيفية استدلاله عليه الصلاة والسلام ، ووصوله إلى رتبة الإيقان. ومعنى (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) ستره بظلامه. و (الكوكب) قيل : الزهرة ، وقيل : المشتري.
أقول : (الكوكب) لغة : النجم. قال الزبيديّ في (شرح القاموس) : وكونه علما بالغلبة على الزهرة غير معتدّ به ، وإنما هي الكوكبة بالهاء. انتهى.
قال الزمخشريّ : كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها ، لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثا أحدثها ، وصانعا صنعها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. وقول إبراهيم لقومه : (هذا رَبِّي) إرخاء للعنان معهم بإظهار موافقته لهم أولا ، ثم إبطال قولهم بالاستدلال ، لأنه أقرب لرجوع الخصم.