القول في تأويل قوله تعالى :
(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)(٣١)
(فَبَعَثَ) أي : أرسل (اللهُ غُراباً) فجاء (يَبْحَثُ) أي : يحفر بمنقاره ورجله متعمقا (فِي الْأَرْضِ).
قال القتيبيّ : هذا من الاختصار. ومعناه : بعث غرابا يبحث التراب على غراب ميت. وكذا رواه السدّيّ عن الصحابة ؛ أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا. فقتل أحدهما الآخر. فحفر له. ثم حتى عليه حثيا.
(لِيُرِيَهُ) الضمير المستكن إمّا لله تعالى أو للغراب. والظاهر ، للقاتل أخاه (كَيْفَ يُوارِي) أي : يستر في التراب (سَوْأَةَ أَخِيهِ) أي : جسده الميت. وسمّي سوأة لأنه مما يسوء ناظره (قالَ يا وَيْلَتى) كلمة جزع وتحسّر ، والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والويل والويلة الهلكة (أَعَجَزْتُ) أي : أضعفت عن الحيلة (أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) أي : الذي هو من أخسّ الحيوانات. والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب (فَأُوارِيَ) أي : أغطي (سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ) أي : صار (مِنَ النَّادِمِينَ) أي : على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله. فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضلّ منها وأدنى.
وفي (التنوير) : ولم يكن نادما على قتله.
وقال أبو الليث عن ابن عباس : لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه.
تنبيهات :
الأول : ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول ، وأنه تعلم ذلك من الغراب. ولا مانع من ذلك. إذ مثله مما يجوز خفاؤه. لا سيما والعالم ، في أول طور النشأة ، وأنه أول قتيل ، فيكون أول ميت.
ونقل الرازي احتمال أن يكون عالما بكيفية دفنه ، قال : فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل ، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به ، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر ، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه. فواراه تحت الأرض ، والله أعلم.