وقنوطه يصيبه منه اليأس أن تأتيه رحمة الله وفرجه ، والقانط قد يبلغ به حدّ اليأس أن ينسى الفرائض ولا يأتيها ، لاعتقاده فقد الأمل ، كقوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) (٥٥) (الحجر) أى من الآيسين. وقد يأتيه القنوط إذا كثرت ذنوبه ، وفى الخبر أن الآية : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (٥٣) (الزمر) نزلت فى قوم أسرفوا على أنفسهم ، قيل نزلت فى «وحشىّ» قاتل حمزة عمّ النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، سأل النبىّ صلىاللهعليهوسلم : أشركت بالله ، وقتلت النفس التى حرّم الله ، وزنيت ، هل يقبل الله منى؟ فنزلت : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٠) (الفرقان) ، تبيّن أن التوبة تجبّ ما قبلها إذا عمل صاحبها صالحا ، وهنا قال وحشىّ : فلعلى لا أعمل صالحا؟ فنزلت : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣) (الزمر) ، فدلّ على أن التائب تغفر له ذنوبه جميعا ، حتى «وإن لم يعمل صالحا» ، فيكفيه من الصلاح الامتناع عن الشرّ ، واستبشر أصحاب الذنوب الكثيرة بالآية ، ولذلك قال فيها علىّ بن أبى طالب : ما فى القرآن آية أوسع من هذه الآية : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣). وقال عبد الله بن عمر : هذه أرجى آية فى القرآن. ونعود إلى القنوط واليأس والفرق بينهما ، وفى الآية : (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) (٤٩) (فصلت) يأتى اليأس أولا ثم يترتب عليه القنوط ، وربما من السياق كله أن اليأس يكون من روح الله ، وأما القنوط فمن رحمته تعالى ، وأما فى هذه الآية فإن اليأس يكون من زوال ما به المكروه ، بينما القنوط أن يظن أنه يدوم.
* * *
١٤٤٠ ـ المستضعفون والمستكبرون من أنماط الشخصية
الناس صنفان فى الحق : إما مستضعفون وإما مستكبرون ، ويوم القيامة يبرزون لله جميعا ، يقول المستضعفون للمستكبرين : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١) (إبراهيم) ، ذلك لأن علامة المستضعف أو الضعيف نفسيا واجتماعيا : أنه تابع يأتمر بأمر القوى أو المستقوى ، والمجتمعات فيها من الفئتين ، والمستقوون من دأبهم الاستكبار ، واستكبارهم يجعلهم فى المقدمة ، وينحّى من أمامهم الضعفاء ، ولذلك تؤول الأمور فى المجتمعات إلى المستقويين المستكبرين ، وهؤلاء خارجون على القوانين ، وهم ترزية