ونبّهت الآية إلى نقص علمهم ، وتدنّى إيمانهم عن المرتبة الكاملة ، وسوء فهمهم ، وقلة درايتهم ووعيهم ، فكلما نادى النبىّ صلىاللهعليهوسلم بالجهاد تعلّلوا وتخلّفوا ، وما كانوا يكلّفون أنفسهم أن يعتذروا ، فانطبقت عليهم أحكام ثلاثة : فأولا : لم يعد لهم حقّ فى الغنيمة والفيء ، لأنهم لم يجاهدوا كالمسلمين ؛ وثانيا : لم يعد جائزا أن تسمع لهم شهادة ، لأن الله قد وصفهم بالكفر والنفاق ، وقال فى أيمانهم : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (التوبة ٩٦) ، فوصفهم بالفسق ولبئس الصفة. وثالثا : لم يعد مناسبا أن يؤم أى أعرابى المسلمين فى الصلاة ، لأنهم لا يعلمون حدود الله وجهلوا الدين. واستتبع كل ذلك أن غالبتهم ضنّوا أن ينفقوا فى سبيل الله ، وتمنوا البوار للمسلمين ، وترقبوا فيهم الاندحار ، كقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (التوبة ٩٨) ، فجمعوا إلى الجهل بالدين ، الجهل بالإنفاق والحكمة فيه ، وسوء الدخيلة وفساد الطوية وخبث النية. وما كانوا جميعا بهذا السوء ، فلكل قاعدة استثناء ، والناس فيهم الصالح والطالح ، والخيّر والشرير ، ولا بد أن يكون من الأعراب من هو على الإيمان ، كقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ) (التوبة ٩٩) ، فكان من الأولين منهم ، قبائل : مرينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفّار ، وأشجع ، والدّيل ، وبنى أسد بن خزيمة ، وكان من الثانين : بنو مقرّن من مزينة ، فكان المؤمنون قلة والأكثرية منافقين ، وفيهم نزل القرآن : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) (التوبة ١٠١) ، والمنافقون هم الذين سمّاهم مخلّفين : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (الفتح ١١) ، وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ولكن التخلّف دأبهم ، ففي الخندق لم يحضروا وتعلّلوا حتى قلّدهم غيرهم : (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) (الأحزاب ٢٠) ، يعنى تمنّوا لو فعلوا مثلما فعل الأعراب ونأوا بأنفسهم عن الجهاد حذر القتل وتربصا للدوائر. وفى تبوك اعتذروا الاعتذارات الواهية المبتذلة فقالوا : شغلتنا تجارتنا وخفنا على أهالينا ، وزادوا بأن طلبوا أن يسامحهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ويدعو لهم بالمغفرة ، ولم يجر بخاطرهم أن المغفرة لا تكون إلا لمن كان ظاهره كباطنه ، وهؤلاء كان اعتقادهم بخلاف ظاهرهم ، ففضحهم الله بقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (الفتح ١١) ، فكأن نفاقهم كان «النفاق المحض». ولقد تخلّفوا فى الحديبية ، وفى حنين ، فكان تخلّفهم نكوصا ، وينبئ عن خوف وشح بالنفس والمال ، فإذا كان ذلك حالهم وعدوهم هو ما هو عليه من ضعف باد ، فكيف مع عدو أقوى