كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (٦٥) (التوبة) ، والآية نزلت فى غزوة تبوك ، فبينما كان المسلمون متجهين إليها سخر منهم نفر من المنافقين كانوا فى صحبتهم ، وقالوا : انظروا هذا ، يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بنى الأصفر! يريدون بذلك الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فالتفت إليهم معاتبا ، فقالوا : إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال لهم نبى الله : «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون»؟! ، وقيل الذى كان يخوض ويلعب هو وديعة بن ثابت وكان من المنافقين ، والهزل بالكفر كفر ، والهزل أخو الباطل والجهل. وقوله : «لا تعتذروا» دليل على أنهم أكثر من واحد ، وقيل كانوا ثلاثة ، هزئ اثنان ، وضحك واحد ، فالذى عذر هو الذى ضحك ولم يتكلم ، قيل هو مخشى بن حمير ، أو ابن مخشى ، أو هو مخاشن بن حمير ، أو ابن خمير ، والإجماع على أنه تاب وسمّى نفسه عبد الرحمن ، ودعا أن يقتل شهيدا ، واستشهد باليمامة فيما بعد ، والمؤكد أنه كان منافقا قبل أن يتوب ، لأن الآية التالية تقول : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٦٧) (التوبة) ، فثبت ذلك عليه وعلى شريكيه ، وكفر هؤلاء لم يكن إذن من باب الارتداد ولكنه من الطبع ، فإن يكن قد أعلنوا الإسلام إلا أنهم لم يكونوا قد آمنوا. وقد عفا الله عن مخاشن هذا لمّا تاب ، لأنه فقط لم ينطق كلمة الكفر واكتفى بالضحك ، وأما الاثنان الآخران فكانا منافقين عن حق ، فصدق عليهم الكفر عن حق ، واستحقا اللعنة ووعدا النار خالدين فيها.
و «المرتد بعد إيمان» يستتاب ولو مائة مرة ، والأمر فيه على اختلاف بين الفقهاء وقالوا يقتل ، بالحديث : «من بدّل دينه فاقتلوه» ، ولا يوجد فى القرآن نصّ بذلك ، إلا أن عمله يحبط ، والإجماع على أن المرتدة لا تقتل ، وقد نهى الرسول صلىاللهعليهوسلم عن قتل النساء والصبيان ، وابن عباس لم يقتل المرتدة ، وفعل علىّ نفس الشيء. ومن قال بالقتل يحتج بالحديث : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ...» الحديث. ومن قال بأن أعماله تحبط فى الدنيا والآخرة ، قال إنه إذا عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ، فإذا مات وهو مرتد ، قيل : يرثه أهله من المسلمين ، وإلّا ورثه أهله من الكفّار.
وفى الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٥٤) (المائدة) دليل آخر عن أن القتل ليس شرعة الله فى المرتد ، وقيل الآية من إعجاز القرآن لأنها أنبأت عن الردّة تكون فى غير عهد النبىّ صلىاللهعليهوسلم كحركة كبرى ، وقد جرت فى عهد أبى بكر ، وأهل الردّة كانوا بعد موته صلىاللهعليهوسلم ، فلما قبض ارتدت العرب إلا مسجدين : مسجد المدينة ، ومسجد مكة ، وقيل ومسجد جؤاثى