وليس كذلك الحال في الإسلام ، فلقد كان الناس من قبل الإسلام على طريقة اليهود أو النصارى ، فإذا اجتمعوا للأكل عزلوا الأعمى على حدة ، والأعرج على حدة ، والمريض على حدة ، لتقصيرهم عن أكل الأصحاء ، فإذا اجتمعوا بهم تفضّلوا عليهم إذا شاءوا ، وكان الأعمى يتحرّج أن يأكل طعام غيره ، وأن يدس يده في الطعام فتصطدم بأيدي غيره ، ولذلك كانوا يعزلونهم ، وكان الزمني يتحرجون كذلك ويؤثرون العزلة ، فنزلت الآية : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (النور ٦١) ، لرفع الحرج عن هؤلاء ، وإباحة أن يشاركوا الآخرين طعامهم ، وساووا بينهم ، وذلك من الأدب العالي ، وفيه من الرقي الحضاري والإنساني ما يجعل الإسلام لا شبيه له ولا ضريب.
* * *
٢٠٨٠ ـ هل المسلم أكول؟
من مأثورات الإسلام ردّا على المتخرّسين الحديث عن نافع قال : كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه ، فأدخلت رجلا يأكل معه ، فأكل كثيرا فقال : يا نافع ، لا تدخل هذا علىّ ، سمعت النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقول : «المؤمن يأكل فى معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء». والمعنى أن المؤمن قنوع ، ونزوعه إلى الزهد والأخروية ، بينما الكافر ـ ومثله العلماني والعولمي وأشباههم من الماديين ، يفرطون فى الطعام ، ويتهافتون على الماديات ، ولا يسأمون ولا ترتوى شهواتهم إليها. والحديث فى رواية أخرى : «إن المؤمن يأكل في معى واحد ، وإن الكافر ـ أو المنافق فلا أدرى أيهما ـ يأكل في سبعة أمعاء» ، وفى رواية أخرى قال : «يأكل المسلم في معى واحد ، والكافر يأكل فى سبعة أمعاء». وعن أبى هريرة : أن رجلا كان يأكل أكلا كثيرا فأسلم ، فكان يأكل أكلا قليلا ، فذكر ذلك للنبىّ صلىاللهعليهوسلم فقال : «إن المؤمن يأكل في معي واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء». وأخرج ابن أبى شيبة وأبو يعلي والبزار والطبراني أن هذا الرجل هو جهجاه الغفاري ، قدم في نفر من قومه يريدون الإسلام ، فحضروا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم المغرب ، فلمّا سلّم قال : «ليأخذ كل رجل بيد جليسه» ، وكان الجهجاه هذا طويلا عريضا لم يتقدم ليأخذه أحد ، فذهب به رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى منزله ، فحلب له عنزا ، فأتى عليه ، فحلب له آخر حتى حلب سبعة أعنز ، فأتى عليها ، ثم أتى له بصنيع برمة فأتى عليها ، حتى قالت أم أيمن : أجاع الله من أجاع رسول الله! فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مه يا أم أيمن : «أكل رزقه ، ورزقنا على الله!». فلما كانت الليلة الثانية وصلّى المغرب صنع ما صنع في التي قبلها ، فحلب له الرسول صلىاللهعليهوسلم عنزا واحدا وارتوى الرجل وشبع ولم يطلب آخر ، وتعجبت أم أيمن ، فقال لها الرسول صلىاللهعليهوسلم : «إنه أكل فى معى واحد الليلة وهو مؤمن ، وأكل قبل ذلك فى سبعة أمعاء.