على يوسف ، وكان كثير البكاء ولم ينسه أبدا ، وكلما رأى أولاده كظم حزنه ، حتى رقّ له أولاده بعد أن هرم وبلغ من الكبر عتيا ، وخافوا عليه الهلاك والتلف ، وما شكا لهم حاله ، وإنما توجّه بشكايته إلى الله ، يبثه حزنه ، ويزيده الإيمان قناعة بأن الله لا يمكن إلا أن يجمعه يوما بابنه ، وأن يعود إليه الغائب ، قال : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦) (يوسف) ، يعلم عنه الإحسان وخير الجزاء ، وهل جزاء الإحسان عند الله إلا الإحسان ، وللذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، والزيادة أن يعود إليه ولده ويجتمع الشتيتان. وإنه لشىء يدمى القلب أن يقول يوسف لإخوته بعد كل هذا الدمار الذى ألحقوه بنفسه : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢) (يوسف) ، ثم يعطيهم قميصه ليلقوه على وجه أبيهم ، ليشفى من العمى الذى أصابه من كثرة البكاء عليه ، فلمّا كان قميصه الذى رآه ملطخا بالدم ، بزعم أن الذئب أكله ، هو الذى أبكاه ، فظل يبكى حتى ابيضّت عيناه ، فإن قميصه أيضا هو الذى سيبهجه ويعيد إليه بصره ، وذلك دليل على أن عمى يعقوب كان هو «العمى النفسى» psychic blindness وليس «العمى العضوى» organic blindness ، والعمى النفسى هو العمى الذى يتحصّل نتيجة الصدمات النفسية ، ويشفى صاحبه بصدمة نفسية مماثلة نقيض الأولى ، وعلم يوسف بهذا «العلاج النفسى» من علم النبوّة ، وقول يعقوب : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) (٩٤) (يوسف) هو أيضا من بركات وحدس النبوّة ، وكانت ليعقوب فراسة وحدس الأنبياء لمّا قال لأولاده : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (يوسف) ، ثم كانت بركات النبوّة أن يتشمم وحده دون غيره رائحة ابنه فى قميصه فكأنه استروح الجنة ، وما كان ذلك عن فند ـ وهو جنون كبار السن ، وإنما كان محبة يعقوب ليوسف ، ومحبة يوسف لأبيه يعقوب ، ذرية طيبة بعضها من بعض ، أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين.
* * *
٧٩٨. نهاية قصة يوسف فى التوراة وفى القرآن
فى قصة التوراة أن يوسف ذهب ليلاقى أباه عند مقدمه إلى جاسان ، فلما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه ، يقول : دعنى أموت الآن بعد ما رأيت وجهك لأنك بعد باق (التكوين ٤٦ / ٢٩ ـ ٣٠) ، فاللقاء درامى عنيف وفيه البكاء والأحضان والكلمات الطيبة الرقيقة.
وفى قصة القرآن : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي