لقطا ، يتحرّاه المساكين بعض قوتهم. غير أن أصحاب الجنة أقسموا أن يحرموهم منه ، وأن يجذّوا نخلهم مبكرين حتى لا يحضرهم مسكين ، وقدّروا أن لا يستثنون ، فعوقبوا على عزمهم ، فكأن الإنسان يؤاخذ بما عزم ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥) (الحج). وفى الحديث أن المسلمين يلتقيان بسيفيهما : «القاتل والمقتول فى النار» ، قيل : هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» ، يعنى أنه عزم على ذلك ، وأصحاب الجنة قد غدوا على حرز قادرين ، أى عن قصد وقدرة فى أنفسهم ، فعوقبوا باحتراق جنتهم ، فلما رأوا ما آلت إليه ، أدركوا خطأهم ، وأسباب حرمانهم من ثمرهم. وفى الحديث : «إياكم والمعاصى ، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هيئ له» ثم تلا : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ). وكان أوسط أصحاب الجنة أمثلهم وأعدلهم ، فقال : لو لا تسبّحون ، يعنى : لو لا أن قلتم سبحان الله والحمد لله ، بدلا من أن تبيّتوا حرمان المساكين؟ وتلاوموا ، وأقرّوا بذنبهم ، أنهم عصوا عند ما حرموا الفقراء حقّهم ، وتابوا وأنابوا ورجعوا إلى الله! والقصة وعظ كلها ، وتدعو للرجوع إلى الله عند كل ابتلاء ، سواء فى الخير أو فى الشر ، مثلما فعل أصحاب الجنة ، والرجوع إلى الله دأب المتّقين ، ويكافئهم ربّهم بالنعيم. وقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) ، وقوله : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، وقوله : (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) ، وقوله : (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) ، وقوله : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) ، وقوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) كلها للتوبيخ والتقريع والإنكار عليهم ؛ والزعيم فى الآيات : هو الضمين والكفيل ، والقائم بالحجة والدعوى. وقوله : (أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) ذهبت مثلا جاريا. والقصة بوقائعها ، والعظة المستخلصة منها ، والأسئلة التى تطرحها والردود عليها تجعل منها قمة فى الإعجاز البلاغى ، وتصنعها قطعة حيّة من الحوار المنطقى المؤسّس على مقدمات سليمة وخواتيم لا تقبل الجدال ، فلا عجب أن ضربت مثلا لأهل مكة فى حياة النبىّ صلىاللهعليهوسلم وبعده لكل كفّار عنيد.
* * *
٧٣٤. أصحاب الرّسّ كانوا من المكذّبين
يقص القرآن أحسن القصص ، ووجه الحسن فى قصص القرآن أنها للتفكّر وللتدبّر وليست للهو وإزجاء الوقت. ويأتى ذكر الكثير من الأنبياء فى القرآن ، وبلغ عددهم فيه خمسة وعشرين نبيا ، وتناولت قصصهم ما جرى معهم من أقوامهم ، ومن الأقوام ما ذكر غير مرتبط بنبىّ من الأنبياء ، ومن ذلك أصحاب الرّسّ ، قيل فيهم : (وَعاداً وَثَمُودَ