حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٩) (القصص). وفى هذه الآيات وغيرها مما سنورده بعد ، يظهر جليا التفاوت بين روايتى القرآن والتوراة ، ورواية القرآن طويلة وفيها صراعات وخلافات ، ورواية التوراة قصيرة ولا نعرف ما دار بين شخوصها ، وفيها أن بنات شعيب كن سبعة ، وذهبن جميعا يستقين ؛ وفى رواية القرآن أنه لم يكن له إلا ابنتان ذهبتا للمورد ، والبنت الكبيرة كانت الناصحة لأبيها ، وطلبت منه أن يستأجر موسى ، فخير من يستأجر هو «القوى الأمين» ، فكأنها بذلك قد وصفت موسى خير الأوصاف ، وكأنه أعجبها ، وهذا ما جعل الأب يعرضها على موسى للزواج. وقصة القرآن تؤرّخ لأهل مدين فى كل أحوالهم ، ومنها نلم بالكثير من عاداتهم وأعرافهم ، فالرعاء الذكور يسقون قبل الإناث ؛ ومورد الماء يجتمع عنده الناس ، فربما يستأجر القادر العاطل ؛ والنساء قد ترعى الأغنام وتزود عنها ، فلم يكن ذلك محظورا عندهم ولا العرف يأباه. ومنذ البداية يظهر قوم شعيب بهتا مطلا لا مروءة عندهم ، ولا يصلح للتعامل معهم إلا القوى كموسى ، ولذا زحمهم موسى وغلبهم على الماء حتى سقى ، وهذا الغلب هو الذى وصفته إحدى ابنتى شعيب بالقوة ، فلما أمرها أبوها شعيب أن تستحضر موسى جاءته على استحياء فى غير خراجة ولا ولاجة ، وعرض عليه شعيب أن يستأجره ، كما نصحته ابنته ، وأن يزوّجه إياها. وفى الإسلام عرض عمر ابنته حفصة على أبى بكر وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، فقد يرى الولى أن يعرض وليّته ، وقد ترى المرأة أن تعرض نفسها ، اقتداء بالسلف الصالح ، ولا يعتد بأن شعيبا زوّج ابنته دون رأيها ، فإنها مما قالته عن موسى كانت راغبة فيه ، والرغبة رضا ، ورضا الولية شرط للزواج لأنها بلغت حدّ التكليف. وقوله : «أريد أن أنكحك» نستدل منه أن النكاح موقوف على التزويج والإنكاح. وقوله : «إحدى ابنتى هاتين» يدل على أنه عرض لا عقد ، لأنه لو كان عقدا لعيّن المعقود عليها ، ولو أن سياق القصة يفهم منه أن المعروضة