٧١٠. إبليس أول من عصى وكفر
إبليس فسق عن أمر ربّه كقوله تعالى : (إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (الكهف ٥٠) ، أى تمرّد وعصى ؛ كقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (البقرة ٣٤) ، فأول عصيان من مخلوق لخالقه هو عصيان إبليس رفض أن يمتثل لأمره تعالى بالسجود لآدم ، بدعوى أن آدم خلقه من تراب بينما إبليس خلقه من نار ، فبزعم شرف النار على التراب تعلّل بأن لا يسجد ، فأول من كفر هو إبليس ، والسؤال هو : هل كان كفره عن عناد أم عن جهل؟ والجواب : لم يكن إبليس يصدر عن جهل وقت أن عصى ، لأنه كان يعرف ويعلم ، إلا أنه كان من «الجاهلين» ، بالمعنى الذى جاء فى قصة عمر لمّا دخل عليه الأعرابى يسبّه ويقول : والله ما تعطينا الجزل يا ابن الخطاب ، ولا تحكم بيننا بالعدل ـ والجزل هو الشيء الكثير. فغضب عمر ، فانبرى أحد الجالسين يقول : يا أمير المؤمنين. إن الله قال لنبيّه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) (الأعراف) ، وهذا من الجاهلين! ـ وبعد هذه الآية مباشرة يأتى قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (الأعراف ٢٠٠) ، والتعوّذ بالله مما تثيره فى النفس جهالة أحدهم كهذا الذى سبّ عمر. وكذلك كان إبليس من الجاهلين ، وكان عصيانه نزغا من طبيعته النارية العنيفة ، ونزغه كان هذا الحسد والكبر فيه ، فذلك الذى دعاه إلى الكفر فعصى الله. فإذا كانت خطيئة المرء فى حسده وكبره فلا ترجه ، وإن كانت خطيئته فى معصية كآدم ، فارجه. ولو قارنا خطيئة آدم بخطيئة إبليس ، لتبيّن أن خطيئة آدم كانت معصية ، بينما خطيئة إبليس كانت الحسد والكبر ؛ وهما بطر للحقّ وغمط للناس ، وبطر الحق : تسفيهه وإبطاله ؛ وغمط الناس : هو الاحتقار لهم ، والازدراء بهم ، قال إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) (الأعراف) ، وقال : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٦١) (الإسراء). وقال : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٣٣) (الحجر)! فأول معصية فى الوجود كانت الحسد والكبر ، والاثنان وجهان لعملة واحدة ، وكلاهما يؤدى للآخر ، وإبليس حسد آدم على ما فضّله به ربّه ، وهذا هو المقصود فى تعريف الكبر بغمط الناس ، فلما حسده تكبّر عليه ، وهذا هو بطر الحقّ ، أى تسفيهه وإبطاله ، فالمتكبّر بتصرف وكأنه أحسن ممن يتكبّر عليه ، فيزيده تصرّفه توهما بأنه الأحسن ، وطالما أنه كذلك حقّ له أن يتكبّر ، فكأنه وحده الموجود دون الآخر ، فسلوك الكبر يلغى الآخر. وهكذا يكون الحسد يتسرّب إلى النفس ويؤدى إلى ارتكاب الذنوب ، لأنه بداية المرض النفسى والإصابة بهذاءات العظمة ، والاحتقار للآخر وتضخّم ذات المتكبر وأن يعلى من قدر نفسه ، وتسلمه هذاءات العظمة إلى السلوك البارنى (من بارالويا أى جنون توهّم العظمة) ، فيكون ادعاء العظمة عن غير أساس وهو المسمى