فى القرآن ذكر المقابر إلا فى هذه السورة. وسياق السورة يزهّد فى زيارة القبور فلا شىء فيها إلا التراب ، وأما الأحباب فعند الله ، فما كان من تراب فمآله للتراب ، وما كان من الله فإليه يعود ، والثياب إذا بليت ألقى بها ، فكذلك الأجساد ، وذلك دليل على أن الإنسان روح وليس جسدا. فإذا كانت زيارة القبور للاتّعاظ والاعتبار ، ولوجه الله تعالى ، وإصلاح فساد القلب ، فذلك أليق وأنسب ، ومن يرد علاج قلبه من القساوة ، فعليه أن يكثر من التفكّر فى الموت ، والتفكير فيه يميّز الإنسان عن سائر الموجودات ، وكذلك مشاهد المحتضرين ، وعيادة المرضى فى مرض الموت ، والسير فى الجنازات ، وزيارة القبور ، فهذه أربعة أمور تؤتى كعلاج نفسى دينى. وليس كذكر الموت تنبيه للغافل بما إليه المصير ، وليس كمشاهدة المحتضرين مدعاة للتفكير ، وليس كزيارة القبور موعظة للقلب اللاهى ، والخبر ليس كالمشاهدة والمعاينة. والتكرار فى قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) : فى الأولى يتأتى العلم عند معاينة الموت ، وفى الثانية يتأتى العلم عند البعث ؛ وقيل : فى الأولى يتأتى عند انتزاع الروح ، وفى الثانية عند دخول القبر وسؤال منكر ونكير ؛ وقيل : إن علىّ بن أبى طالب قال : كنا نشك فى عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة ـ يشير إلى قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعنى فى القبور ، والحديث مشكوك فيه ، لأن السورة مكية! ووقتها لم يكن علىّ قد أدرك بعد ، وإنما متعلق القسم فى السورة بما بعدها : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (٧) ، والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار. فلما نزلت : (لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨) قيل إن أبا بكر سأل الرسول صلىاللهعليهوسلم عن أكلة أكلوها معا ، وكانت مجرد تمر وماء ، هل هى من النعيم الذى يسألون عنه؟ فأجاب : «ذلك للكفار» ، ثم قرأ : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) (سبأ) ، يعنى : لن يسأل عن النعيم إلا أهل النار ، فلمّا كفروا يسألون عن كل شىء كان من النعيم حتى الماء والهواء! وهؤلاء يرون الجحيم مرتين : مرة بعين قلوبهم تصوّرا وتخيّلا ، ومرّة بعين رءوسهم مشاهدة ومعاينة ، فما كان «علم يقين» يصير «عين يقين». والنعيم المسئول عنه فى السورة : يتراوح بين الضروريات والكماليات ، فعن أبى هريرة أن الناس تساءلوا : أى نعيم نسأل عنه؟ فإنما هما الأسودان : التمر والماء ، يعنى ما كان إلا شظف العيش ، فقال الرسول : «إن ذلك سيكون» ، يعنى حتى الأسودان تسألون عنهما ، أو يسأل عنهما كل جاحد كافر بأنعم الله ، وأما المؤمن فهو مقرّ بنعم الله وشاكر حامد عليها ، ويتحدّث بها دوما ثناء على الله. ومضمون سورة التكاثر : أن النعيم هو نعيم المتكاثرين المتباهين المترفين ، وفى القرآن أن الإنسان لا يسأل يوم القيامة عمّا كان يسد به جوعه ، ويروى عطشه ، ويستر عورته ، ويحتمى