بها خاتمة السورة ، وختامها مسك. وفيها خصّ اليتيم بأول وصية ، لأنه إنسان لا ناصر له إلا الله ، فغلّظ فى أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه ، وليس فى أى كتاب سماوى بخلاف القرآن مثل هذه الرعاية التى لليتيم ، ولا تكلم نبىّ سوى نبيّنا بمثل ما تكلّم به فى اليتمى ، وانظر إلى النهى القرآنى عن قهر اليتيم ، واختياره لكلمة «قهر» يعنى الشدّ عليه والتغليظ له وزجره ، فلا يجد من يشكو إليه ويحنو عليه ، فيغلب على أمره ، وينكسر قلبه ، وتعاف الحياة نفسه. وفى الحديث يعالج الرسول صلىاللهعليهوسلم قسوة القلب عند الناس فيقول ناصحا : «إن أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين» ، ولأنه كان يتيما قال : «أنا وكافل اليتيم ، كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى ، والكافل : هو القائم بالأمر من نفقة وكسوة وتربية وتأديب. وكان صلىاللهعليهوسلم أدرى الناس بحال اليتيم ـ ولا يحدّثك مثل خبير ، فقال : «إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، فيقول الله لملائكته : يا ملائكتى ، من ذا الذى أبكى هذا اليتيم الذى غيّبت أباه فى التراب؟ فتقول الملائكة : ربّنا أنت أعلم. فيقول الله تعالى لملائكته : يا ملائكتى! اشهدوا أن من أسكته وأرضاه ، أن أرضيه يوم القيامة». وثانية الوصايا : النهى عن نهر السائل ، وفى الحديث : «لا يمنعن أحدكم السائل» ، والحديث : «ردّوا السائل ببذل يسير أو ردّ جميل» ، أو أن المراد بالسائل : الذى ينشد المعرفة والعلم ، والردّ عليه فرض على العالم ، كإعطاء سائل البرّ سواء. وثالثة الوصايا : النشر عن أنعم الله ، والتحدّث بها بالشكر والثناء. وفى الحديث : «من أعطى خيرا فلم ير عليه ، سمى بغيض الله ، معاديا لنعم الله». وقال : «من لم يشكر القليل ، لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس ، لم يشكر الله ، والتحدّث بالنعم شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب». والخطاب فى السورة حول الوصايا الثلاث للنبىّ صلىاللهعليهوسلم ، ولكن الحكم عام له وللمسلمين.
وقد يقال فى اهتمام الرسول صلىاللهعليهوسلم باليتيم كما يقول التحليل الطبى النفسى : أن دافعه إليه كان يتمه هو نفسه ، فقد نشأ يتيما خالص اليتم ، سواء من الأب أو من الأم ، فالأب مات وهو بعد فى بطن أمه ، والأم ماتت وهو فى نحو السادسة ، وكفله جدّه ، وكان من الممكن أن يعوّضه عن أبويه ، فالجدود بهم حنان وعطف على أحفادهم خاصة ، ولكنه مات كذلك والرسول صلىاللهعليهوسلم فى الثامنة ، فصار إلى عمّه أبى طالب يكفله ، وكان بيته يعجّ بالنساء والأولاد ، والكل مشغول بنفسه ، والنبىّ صلىاللهعليهوسلم يعيش فى وحدة ، ويفتقد أن يحادثه أحدهم ، أو يقول له كلمة حب ، أو يرعاه بكساء أو طعام ، حتى تعقّدت نفسه من اليتم ، وتحصّلت له منه «عقدة نفسية» ، دار حولها سلوكه ، وكان يتصرّف بدافعها. غير أن العقد النفسية تجعل من أصحابها شخصيات جامدة ، وتصنع منهم مرضى نفسانيين ، وما