فيه ، ولما سمعها الرسول صلىاللهعليهوسلم قال : «اجعلوها فى سجودكم». فكانوا إذا قرءوا السورة فى الصلاة ، فعند ذكر «فسبّح اسم ربّك الأعلى» ، يقطعون القراءة ويقولون : «سبحان ربّى الأعلى» ، ولم يكونوا يقولون : سبحان اسم ربّى الأعلى ، لأن الاسم هو المسمى ، وظن البعض أن قول : «سبحان ربّى الأعلى» تزيّد فى السورة ، وقال آخرون تبريرا بل لقد أمرنا بشيء فقلناه ، فسبحان ربّنا الأعلى الذى خلق الخلق فسوّى خلقتهم ، وسوّى الأجنة فى بطون أمهاتها ، وسوّى الأفهام ، وسوّى الإنسان وجعله قابلا للتكليف ، وقدّر كل شىء وهداه لقانونه ، ووفّقه لشكله وسمته ، وأرشده لما قضى به له من السعادة والشقاوة ، والهداية أو الضلال ، ولما قدّره من الأرزاق والمعايش له وللناس كافة وللحيوان والطير وكل المخلوقات ، وكما قال : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٥٠) (طه) ، يعنى قدّر فى الأشياء منافعها ومضارها ، وقدّر ما يصلح كل إنسان وحيوان ، وأخرج المرعى ، وأنبت الزروع ، حتى استوت واخضرّت ونضجت على أعوادها ، فذلك قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥).
والجزء الثانى من السورة هو قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) (٧) وهو يخصّ طريقة قراءة القرآن ، وقراءته على أى حال واجبة على الناس : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل ٢٠) ، وعلى النبىّ صلىاللهعليهوسلم : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (٣) (العلق) ، وما سمّى القرآن قرآنا إلا ليقرأ ، وللقراءة أركان : فقبل القراءة تكون الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم (النحل ٩٨) ، وعند القراءة يكون الاستماع والإنصات (الأعراف ٢٠٤) ، وتكون القراءة للتدبّر (محمد ٢٤) ، وبالنسبة للنبىّ صلىاللهعليهوسلم فالقراءة إما تلاوة أو ترتيل ، وفى كل الأحوال هى قراءة لحفظ واستذكار ، وما جعلت قراءة القرآن أصلا لينسى ، وإنما ليحفظ ويذكر ، ولتكون آياته منهج حياة ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) (القمر ١٧) ، وعلى ذلك فليس صحيحا أن النبىّ صلىاللهعليهوسلم أو كل جبريل أن يحفّظه القرآن ، بدعوى أنه كان أميا ، وكان لذلك ينسى! ومن ثم نزلت ـ بزعمهم ـ الآية : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) بمثابة الوعد من الله تعالى بأنه لن ينسى من بعد هذه الآية! ولا دليل فى الآية على أن حاله صلىاللهعليهوسلم فى حفظ القرآن هو حال الإنسان الأمى ، وإنما الآية تلحق بما يشبهها فى هذا المعنى ، وبما يفسّرها أيضا ، كقوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (طه ١١٤) ، والنبىّ صلىاللهعليهوسلم لم يكن يعطى صحفا ليقرأ منها ، وإنما كان القرآن يتلى عليه ، ومنذ أول سورة نزلت عليه ، وهى سورة «اقرأ» ، كان يستظهر ما يقال له ، ويعيه سرّه ويذكره قلبه ، وتحفظه ذاكرته ، والمعنى إذن لقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى