تعالى بالطارق ، ويسميه الطارق الثاقب ـ أى النافذ. وقسمه به يجعل منه شيئا هائلا يستحق أن يقسم به ، وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) (٢) تهويل من شأن هذا المقسم به. وكل ما فى القرآن : (وَما أَدْراكَ) إنما ليلفت انتباهنا إليه ويعظّمه لنا ، وكل ما فيه : (وَما يُدْرِيكَ) (الأحزاب ٦٣) إنما ليعلمنا بقلة درايتنا وقلة وعينا به. والطارق هذا من هوله قد يجعلنا نخاف على أنفسنا ، فمن يحفظنا منه لو أصابنا منه أذى بما أنه ثاقب ، ولهذا قال تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤) ، كقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (الرعد ١١) ، وما من وسائط تحفظنا فى الحقيقة لأن الحافظ هو الله. ولا بد أن التفكير فيما يحفظنا سيجعلنا نفكر فى حقيقتنا ونتساءل : ممّا خلقنا؟ وقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) (٥) تنبيه للإنسان على ضعف أصله ، وأننا خلقنا من المنىّ المهين ، ومع ذلك صرنا إلى ما صرنا إليه من الضخامة والفخامة. أفمن فعل كل ذلك لا يقدر أن يبعثنا بعد الموت يوم القيامة؟ وإن يوم القيامة ليوم موعود ، وفيه تبلى السرائر ، وتنكشف الضمائر ، ويظهر المستور من النفوس ، ولا حول ولا قوة للإنسان فى ذلك اليوم ، فلا ناصر له ، ولا مغيث. ثم يكون الجزء الثانى من السورة ، ويقسم فيه الله تعالى بالسماء التى ترجع بالمطر دوما ، والأرض التى تنشق عن النبات ، وهما آيتان من آياته تعالى ، كالطارق فى بداية السورة ، وجواب القسم : أن هذا القرآن المنزّل على محمد ، قوله فصل ، أى يفصل بين الحق والباطل ، وما هو بالهزل ، والهزل ضد الجد ، وفى حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن القرآن قال : «هو الفصل ، ليس بالهزل» ، ومع ذلك فقد كذّبوا بالقرآن ، وصدّوا عن سبيل الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وكادوا له ، وكيد الله أكبر ، وكيده تعالى هو استدراجهم من حيث لا يعلمون ، ثم يقول لنبيّه صلىاللهعليهوسلم : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧) أى أنظرهم قليلا ولا تستعجل لهم. والسورة تحفل بالأدلة القاطعة ، والبراهين الدامغة على قدرة الله وعظمته ، وعلى أن البعث حقّ وواقع ، وأن القرآن كتاب من لدن الله تعالى ، وأنه الكتاب الفارق الميسر للذكر ، فصّلت آياته ، وضرب فيه للناس من كل مثل. ولله الحمد والمنّة.
* * *
٦٦٩. سورة الأعلى
السورة مكية ، نزلت بعد سورة التكوير ، وآياتها : تسع عشرة ، وترتيبها فى المصحف : السابعة والثمانون ، وفى التنزيل : الثامنة ، والاستهلال فى السورة بالأمر بالتسبيح لله العلىّ الأعلى ، قال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) يعنى نزّهه عن السوء وعما يقوله الملحدون