وبالليل مقبلا ، أو بالنور والظلمة ، وفى الليل يظهر القمر ويتسق ، أى يستدير ويكتمل ، وكل ذلك آيات دالة على قدرته ، والذى صنع وأبدع وسوّى كل ذلك يقدر أن يبطله ويزيله ويمحوه يوم القيامة ، فالعالم ليس للأبد ، فلكل ما خلق عمر ينصرم وينقضى ، وفى النهاية تأتى الساعة وتكون القيامة. وقوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (١٩) جواب القسم ، والحياة أطباق ، يعنى أحوالا وأطوارا ، والناس فيها من طور إلى طور ، ومن حال إلى حال ، ومن ذلك طور الموت ، وطور البعث ، وطور الخلود فى الجنة أو فى النار. وكل مخلوق من جماد ونبات وحيوان له أطوار ، ويركب طبقا بعد طبق ، وهذا إعجاز علمى فى القرآن ، ونظرية الأطوار فى القرآن ليس فيها أن الإنسان كان قردا كما يقول دارون ، وإنما أنه مرّ بالحالة الحيوانية ، كما مر بالحالة النباتيةVegetative ، وهذه الحالة الأخيرة تعنى أنه كان فى مرحلة ينمو ولم تنضج عنده الغرائز بعد ، فإذا نضجت انتقل إلى المرحلة الحيوانية ، أو ركب الطبق الحيوانى ، وقبل المرحلة النباتية يمرّ بالمرحلة الجمادية ، فكان لا يعدو العناصر الستة عشر التى تتركب منها الكائنات ، وبعد المرحلة الحيوانية تكون المرحلة الإنسانية الخاصة بالجنس البشرى homo sapiens ، ويتميّز فيها الإنسان بالعقل والوعى ، ويتمثّل المستقبل ، ويكون له مشروع ، وهذه هى مرحلة الإنسان العامل ، ثم تأتى مرحلة الإنسان الحكيم أو العالم بعد الإنسان العامل ، ثم مرحلة الإنسان العابد ـ وهى أعلى مراحل الرقىّ. فإذا انتهى العمر ركب طبقا آخر يحمله إلى غيب لا يعلمه إلا الله. وكل ذلك أفكار تثيرها وتذكّرنا بها السورة ، وتدعونا إلى التفكّر والتدبّر ، فيأتى السؤال : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٢١) ، وهو استفهام إنكارى ، ينكر على أهل الكفر كفرهم ، ويتعجب من موقفهم ، ويوبّخهم على ترك الإيمان بعد كل هذه الآيات. وليس من سبب لموقفهم هذا إلا أن قلوبهم قد ران عليها ، وصارت غلفا ، وعميت أبصارهم حتى صاروا لا يعقلون ولا يفقهون ، والله أعلم بما يضمرون من التكذيب والكفر ، وما يكتمون من النوايا الخبيثة ، وما يفعلون من الأعمال السيئة وتختتم السورة بمقارنة حال هؤلاء بحال المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، كطريقة القرآن دائما إذا ذكر الكفر والكافرين والعذاب بجهنم ، قابل ذلك بذكر الإيمان والمؤمنين ، ووعد النعيم بالجنة ، فإن كان العاصون قد نالوا أجرهم فى الدنيا ، فأجرهم ينقطع بالموت ، وأما أجر المؤمنين فموصول بعد الموت وباق أبد الآبدين.
ومن المصطلحات فى هذه السورة : «الحساب اليسير» : قال فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ذلك العرض» ويكون بعد الموت مباشرة ، ويقابله الحساب العسير يوم القيامة. من الأمثلة فى السورة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٦) : والمعنى