المسافة بين الأصحاب. وكانوا قد اتهموه صلىاللهعليهوسلم بالجنون ، لأنه إذا أوحى إليه يعرق بشدة ويسكن جسده إلى أن يرتفع عنه الوحى ، وكان يقول إنه رأى جبريل فى صورته كما هو عند ربّه ، فكان ذلك سببا آخر أن يوصف بالجنون ، والسورة تنفى عنه التهمة وتؤكد للمؤمنين صدقه فيما قال : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) ، وقوله : (رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) ، فلأن جبريل كان ضخما يسدّ الأفق ، ووصف الأفق بالمبين أى الواضح ، بحيث أن رؤيته له كانت حقيقة وليست وهما. وأما من قال إن «الهاء» فى «رآه» تعنى الله سبحانه وتعالى ، فذلك أمر بعيد ، فالله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (الأنعام ١٠٣) ، وإنما كانت الرؤية لجبريل بصورته الملكية مرتين ، فمرة : (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) (التكوير) و (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧) (النجم) ، ومرة : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤) (النجم) ـ (انظر هل رأى محمد ربّه؟ ضمن باب «النبوة والنبىّ») ، وتصف الآية النبىّ بأبلغ بيان : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٢٤) أى لا يضن عليهم بما يعلم ، تصديقا لقول عائشة فيه صلىاللهعليهوسلم : أنه ما كتم شيئا من الدين. والغيب هو القرآن وخبر السماء. ورؤيته لجبريل من الغيب. ولو نجحت خطة المنافقين وشككوا الناس فى رؤيته لجبريل ، لكان معنى ذلك أنه متّهم كذلك بشأن القرآن ، ولذا يجيء فى هذه السورة : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥) ، وبه يبدأ الجزء الثالث من السورة ، و «هو» المقصود بها القرآن ، وكانوا يتقوّلون : أنّ النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، يأتيه شيطان أبيض فى صورة جبريل يريد أن يفتنه ، وأن القرآن من وحيه ـ أى وحى الشيطان. وردّت الآية عليهم بسؤال إنكار وتوبيخ : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) ، يعنى : ما هذا الهراء الذى تقولون؟ وإلى أى درك من قلة العقل والحمق يأخذكم الكفر والعناد والجحود؟ والجواب على السؤال : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) ، أى إن هذا القرآن موعظة وذكر لكل الناس ، فمن أراد منهم الهداية واتّباع الحق ، فلا هداية فيما سواه ، وأنهم ما يقدرون على شىء إلا بتوفيقه تعالى ولطفه ، فلنسأل الله التوفيق. قيل : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢٨) قال أبو جهل : الأمر إلينا إذن ـ إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم. فأنزل الله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) ، فبيّنت الآية أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق من الله ، ولا شرا إلا بخذلان من الله ، فالله أولا وأخيرا ، والحمد لله ربّ العالمين ، نسأله التوفيق ، فمنه وبه التوفيق والعصمة ، وفى كتابه الفلاح والحكمة.
* * *