جوامع الكلم فى السورة قوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١٧) وهو أسلوب فى قمة البلاغة للتعجب ، وقيل فى عتبة بن أبى لهب ، وكان قد آمن فلما نزلت «النجم» ارتد ، وقال : آمنت بالقرآن كله إلا النجم! فقد ظن أن السورة بها أن الرسول صلىاللهعليهوسلم رأى ربّه ؛ فكان عتبة ممن ذكرتهم الآية : وأنزل فيه : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) يعنى لعنه الله وطرده من رحمته ، ثم صارت هذه العبارة قولا عاما فى الإنسان كجنس ، وحكمة يوعظ بها ، فما كان عتبة وحده الذى كفر بعد أن آمن ، وإنما الكفر ممتد بالإنسان ، وإلا فلينظر هذا الإنسان مما خلق ، والاستفهام فى السورة : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)؟ توليدى كما يقول المناطقة ، والجواب عليه لا يكون إلا تفصيلا ، فبعد الإيجاز والتعجّب فى قوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) يأتى البيان والتفصيل والإقناع فى قوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) (٢٢) فوافق بين رءوس الآيات ، واستخدم السجع للفت الانتباه ، ولخّص حياة الإنسان كلها فى هذه الآيات الأربع ، منذ أن كان جرثومة فى منىّ الرجل لا شأن لها ولا اعتبار ، إلى أن تخلّق نطفة ، فعلقة ، فمضغة ، فتكسى لحما وتكتمل جنينا ، وتيسّرت ولادته طفلا ، ليكبر إلى أن يشيخ ويموت ، ثم يأتى البعث بأمر الله ، فكان المفروض إذا عرف ذلك عن نفسه أن يؤمن ، ولكنه ما فعل ، فلم يؤدّ حق الله عليه ، ولم يقم بما هو مفروض منه ، وقوله : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢٣) فيه ردع وزجر ، فلما انتهى القول فى الإنسان عن نفسه وذاته وتكوينه ، لفته إلى نعمه عليه ، وأولى هذه النعم طعامه ، وفعل الأمر : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (٢٤) طلب فيه الحثّ على التفكير والمعرفة بأحوال الطبيعة سواء فى الإنسان أو البيئة ، وأن ينبنى علم الإنسان بهما على المشاهدة والتجريب والتحليل والاستقراء والاستدلال والاستنباط ، وهى أدوات أهل العلم ، وكل ما فى الكون يقضى بوجود الله تعالى ، وأنه لا بد أن يكون له خالق ، وأنه قادر ومريد وعالم ، وأنه واحد لا إله إلا هو ، إلا أن «المستغنى» كما فى الاصطلاح القرآنى ، جاحد ولا يعتبر. والقرآن يلجأ إلى تفصيل الحجج وتبيين الدلالات ، ويتناول أسباب حياة الإنسان مهما كان ، ويتطرّق إلى طعامه الذى به قوام هذه الحياة ، فالماء أنزله الله من السماء ، وشقّ له فى الأرض سبلا ، ويسّر على النبات أن يمهد لنفسه فيها طرقا ، فخرج منه الحبّ والعنب والعشب ، وأثمر الزيتون ، وأنضج النخل بلحا وبسرا ، ورطبا وتمرا ، وكانت البساتين يكثف فيها الشجر الكريم ، فمنه الفاكهة الزكية النكهة ، ومنه الأبّ تأكله الدواب وترعاه ، وفى كل ذلك متاع وأى متاع للإنسان وللحيوان ، فبأى آلائه تعالى يكفر هذا الإنسان ويجحد؟! ألا إنه ما أكفره عن حق ، وملعون هو عن صدق ، وليس إلا يوم