وتأتى سورة النازعات فى ترتيب المصحف التاسعة والسبعين ، وفى التنزيل الواحدة والثمانين ، بعد سورة النبأ. والسؤال الذى تدور حوله هو : هل نردّ بعد الموت أحياء؟ وهل بعد أن نموت ونبلى ونكون عظاما نخرة ، نرجع أحياء وأسوياء ، نعى ونفهم ، وتكون لنا مسئولية ونحاسب؟ ومن الجديد من المصطلحات والكلام الجامع فى السورة ، قول فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢٤) ويضرب مثلا لتفكير الطغاة عند ما لا يرون فى الكون إلا أنفسهم ، فهم كفرعون ، كل ما يقولونه ويفعلونه هو الصواب ، فلا رأى سوى رأيهم ، ولا فعل لأحد غيرهم. وعلى العكس منه قول موسى ـ وهو النبىّ : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١٩) وهو طلب فى صيغة استفهام رفع إليه الأدب والتواضع ، ومن تأدّب مع الناس رفعوه ، ومن تواضع لهم أحبه الله وآثره. وكلام موسى من أدب المخاطبات ، وفيه عرض أريب. والصور البلاغية فى هذه السورة كثيرة ، ومنها أسلوب التشويق فى قوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (١٥) ، وهو استفهام يرغّب فى معرفة هذا الحديث ـ أى القصة. ومن وجوه البيان والبديع فى السورة توافق الفواصل فى الآيات ، فى مثل قوله : «ضحاها ، ودحاها ، ومرعاها ، وأرساها» ، ويصطلح عليه فى باب المحسنات باسم السجع ؛ والمقابلة بين قوله : (السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) وقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) (٣١) ؛ والمقابلة بين قوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٣٨) وقوله : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) (٤٠) ؛ والطباق فى قوله : «الآخرة والأولى» ، وقوله : «عشية وضحاها» ، وقوله : «الجنة والجحيم» ، وقوله : «السماء والأرض». ومن المصطلحات التى تنفرد بها السورة تسمية يوم القيامة بالطامة فى قوله : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) (٣٤) وهى الداهية أو المصيبة تفوق ما سواها ، وتطم كل شىء أى تفنيه ، ووصفها بالكبرى لأنه ليس كمثلها شىء. وأيضا فإن هذه السورة تشارك سورة طه فى اسم الوادى المقدس طوى عند جبل حوريب الذى كلم الله عنده موسى ، والتوراة تخلو من اسم طوى ، وتكتفى بالقول «الموضع المقدس» (الخروج ٣ / ٥). وقصة موسى برمتها فى هذه السورة لم ترد كقصة ، مثلما جاءت فى التوراة سردا ، ولكنها فى القرآن عظة وعبرة ، ليعلم المنكرون أن مصيرهم كمصير فرعون ، وليتسلّى بها المسلمون عموما ، أى يتقوون ، والنبىّ خصوصا ، إذ يعلمون أن الله ينال من الطاغين ، وأنه تعالى يدحر المكذّبين.
وكانت الآية : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) (٢٠) مثار خلاف بين المفسّرين ، وأذكت الكثير من الجدل ، والإجماع على أن هذه «الآية الكبرى» هى تحوّل عصا موسى إلى حيّة تسعى ؛ ولا نرى إلا إنها مشاهدة موسى للجبل يندك دكا لمّا طلب إلى الله أن ينظر إليه : (قالَ رَبِّ أَرِنِي