المثانى لغة اصطلاحية تدل على حضارة بلاغية أوسع ، وثقافة فكرية أعرض. وقسمها بين العبد وربّه ، والوعى بهذه القسمة من النبىّ صلىاللهعليهوسلم والشرّاح ، فيه إدراك كبير من أهل الإسلام لما يمكن أن تصنّف إليه الفاتحة. وفى الحديث عن الله تعالى يجيء : «قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ، ولعبدى ما سأل ؛ فإذا قال العبد : الحمد لله ربّ العالمين ، قال الله تعالى : حمدنى عبدى ؛ وإذا قال العبد : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى علىّ عبدى ؛ وإذا قال العبد : مالك يوم الدين ، قال الله تعالى : هذا بينى وبين عبدى ، فإذا قال العبد : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين ، قال الله تعالى : هذا لعبدى ، ولعبدى ما سأل».
فهذه الحرفية فى التكوين والتقسيم والتصنيف فى الفاتحة عند المسلمين ، تجعل لها عقلانية ، وتقيم منها بناء معماريا له سمت وأصول فى التكوين ، وله غاية يترسّمها المعمار ، وهى أشياء تفتقد فى فاتحة النصارى ، ومن أجل ذلك وصف الرسول صلىاللهعليهوسلم الفاتحة بأنها : أعظم سورة فى القرآن ، وأنها القرآن الذى آتاه الله ، وأطلق عليها اسم الفاتحة ، لأنها أولا فاتحة الكتاب ، وتفتحه لفظا وخطا ، وتفتح بها الصلوات قراءة ؛ وهى أم الكتاب ، فيبتدأ بها كتابة المصحف ؛ وأم القرآن لأنها أوله وفيها كل علومه ؛ وهى المثانى لأن المصلّى يثنّى بها فى كل ركعة ، أو لأنها استثنيت لأمة الإسلام فلم يكن مثلها عند اليهود ولا النصارى. ثم إن لها معزّة خاصة عند المسلمين ليست لفاتحة النصارى عند النصارى ، فهى يستشفى بها للمريض ، وتستخدم كرقية يرقى بها ، وهى مدخل القرآن الذى يؤسسه ، وأساسها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، وهى الواقية فلا تختزل ، والكافية فتكفى عن سواها. وليس فى تسميتها بالمثانى وأم الكتاب ما يمنع من تسمية سور غيرها بذلك ، وفى القرآن : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) (٢٣) (الزمر) فأطلق الله على القرآن أنه مثانى ، يعنى تثنّى فيه الأخبار ، وأطلق على السور السبع الطوال أنها مثانى ، لأن ما بها من فرائض وقصص يثنّى. والفاتحة قال بها القرآن : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧) (الحجر) ، وكما سبق هى سبع آيات ، وهى مثانى لأن الله قسمها مناصفة بينه وبين عبده ، وهما اثنان. وبديهى أن تكون الفاتحة من القرآن ، إلا أن بعض المتنطّعين ذكروا أنها ليست منه ، وشأنها فى ذلك شأن المعوذتين؟!! .. وكان نزول الفاتحة فى مكة ، وقيل هى مدنية ، وقيل : نصفها مكية ونصفها مدنية ، والثابت أنها مكية لأنها من سورة الحجر ، والحجر مكية بالإجماع ، وكانت مناسبتها فرض الصلاة ، والصلاة فرضت بمكة ، والفاتحة بدونها لا تكون صلاة. وكان نزولها بعد (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (١) (العلق) ، و (يا أَيُّهَا