من التوراة ، ويهدى إلى الحقّ ، واستحثوهم إلى الإيمان ، ورهّبوهم بعد أن رغّبوهم. وتقيم السورة الدليل على البعث : أن من خلق أول مرة قادر على أن يحيى الموتى ، وتعرض لمشاهد من الآخرة ، يوم يعرض الكافرون على النار ويقال لهم : ما ذا تقولون الآن : أليس هذا بالحق؟ أكان ما قاله الله افتراء؟ أكان القرآن سحرا؟ وهل هذه النار سحر أيضا؟ فيومئذ يقرّون بالحق ، وكأن القرآن يوبّخهم على استهزائهم الذى كان منهم فى الدنيا للنبىّ صلىاللهعليهوسلم ورسالته. وتختتم السورة بأمره تعالى للنبىّ صلىاللهعليهوسلم : أن يصبر كما صبر الرسل من أولى العزم ، ولا يستعجل لقومه العذاب بالدعاء عليهم ، وسيأتيهم فى حينه فى الآخرة ، ويومها يندمون أنهم ما لبثوا فى الدنيا إلا ساعة. وهذا القرآن هو بلاغ لكل الناس : العابدين والكافرين ، ولينذروا به ، ولن يهلك بسببه إلا الفاسقون الذين خرجوا عن أمر الله ، وسبحان الله العظيم.
وفى السورة الكثير من المصطلحات وأوجه البيان ، كقوله تعالى فى يوم القيامة أنه «الأجل المسمى» ؛ وقوله : «الأثارة من العلم» يعنى ضرب الرمل ، يخطون بالإصبع فى الأرض أو الرمل ثم يزجر ، وعرّفوا الأثارة من العلم بأنه الخط الذى كان يخطه «الحازى» ، وهو العرّاف أو الكاهن ، ولم يبق الإسلام مما كان يسمى عند القدماء علوم الغيب ـ وتسمى حاليا علوم الباراسيكولوجيا ـ أى علم النفس الغيبى ، ومنها الطّيرة ، والزجر ، والفأل ، والرؤيا ؛ وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (٣٠) (فصلت) ، الاستقامة هى أن لا يلتفتوا إلى إله غيره ، وأن يستقيموا على الطريقة لطاعته ، وعلى أمره ، وعلى شهادة أن لا إله إلا الله حتى مماتهم ؛ وقوله : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) (٢٠) ، أى أضعتموها ، وهذه الآية من الآيات التى تؤسس للاشتراكية الإسلامية ، وكذلك الآية : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (١٩) ، وفيها يحكى جابر : أن أهله اشتهوا اللحم ، فاشتراه لهم ، فمر بعمر بن الخطاب ، فسأله : ما هذا يا جابر؟ فأخبره جابر ، فقال عمر : أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله فى بطنه؟! أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) ، يقصد عمر أن ينبهه إلى أن العادة قد تتمكّن منه ، فإذا لم يقدر على شراء اللحم يوما تسهل الشبهات فى تحصيله ، فيقع فى الحرام المحض بغلبة العادة واستشراء الهوى ، وانتصار النفس الأمّارة بالسوء ، فأخذ عمر الأمر من أوله ، وحماه من ابتدائه ، فكان من الاشتراكيين المؤسسين لاشتراكية الإسلام ـ بلغة هذا العصر ، وقانون الاشتراكية عند عمر أخلاقى : فعلى كل امرئ أن يأكل وينفق ما وجد طيبا وزهيدا ، ولا يتكلف الطيب الزهيد ويتخذه عادة ؛ وكان النبىّ صلىاللهعليهوسلم يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا