أن يتنحّوا عنه ويعتزلوه ومن معه ، وأسرى ببنى إسرائيل ليلا ، وتبعهم فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين ، والقصة تروى بأسلوب موجز ، ولمساته سريعة ، وبأقوى العبارات تأثيرا ، وأشد الألفاظ تلوينا ، كقوله : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٢٤) ، والرهو هو المنفرج ، والعبارة حافلة بالصور رغم قلة كلماتها ؛ وقوله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (٢٧) ، وهو أسلوب تحسّر ؛ وقوله «كم فيه» للتكثير ؛ والمقام الكريم : هى المجالس والقصور ؛ وقوله : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩) ، هو قمة فى التمثيل والتخييل ، ومبالغة فى وجوب الجزع ، والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ، ولم يحزن عليهم أحد ، وهكذا حال المستقويين ، فلما ذا تفتقدهم الأرض وكانوا فيها مجرمين ومخرّبين؟ وإنما تبكى الأرض على من يعمّرها ، ويطهّرها بالسجود إلى الله وتكبيره ، وكل عبد مؤمن له من الأرض مصلّى ، وله مصعد عمل من السماء ، يبكيان عليه إذا مات وافتقدا صلاته وأعماله الصالحات ، وفى الحديث : «وما مات مؤمن فى غربة ، غائبا عن بواكيه (الذين يبكون عليه) ، إلا بكت عليه السماء والأرض ، ألا إنهما لا يبكيان على الكافر». ولقد صدق على قوم فرعون ثم أهل مكة من بعد ذلك قوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (١٥) ، وأهل مكة نزل بهم عذاب كعذاب الدخان ، وكان أحرى بهم أن يذكّرهم بعذاب قوم فرعون ، والله تعالى لمّا اختار هؤلاء وهؤلاء للرسالة ، اختارهم على علم على العالمين ، وعلمه تعالى أنهم سيعودون إلى الكفر رغم كل ما تنزّل من الآيات تقسرهم على الإيمان ، وأنكروا الآخرة والبعث ، وقالوا أنه لا موتة إلا الموتة الأولى ، وأنه لا حياة خارج هذا الزمان ، ولا بعث ولا نشور ، وكانوا أصحاب هذه الدعوة فى الفكر العالمى المعاصر ، سواء عن طريق ماركس والمذهب المادى ، أو عن طريق الوجوديين أمثال هيدجر ، وعبد الرحمن بدوى فى كتابه الزمان الوجودى ، أو عن طريق العلوم والبحوث النفسية بنظريات فرويد والتحليليين ، أو بدعوات العولمة التى يتزعمونها اليوم ؛ وكفّار قريش كانوا مثلهم ، وتحدّوا النبىّ صلىاللهعليهوسلم أن يأتيهم بآبائهم طالما أنهم أحياء عند ربّهم! وهذا المنطق عند اليهود ومفكريهم ، أو عند كفّار قريش ، أو عند الدهريين من أصحاب الفلسفات المادية ـ وكلهم من اليهود ـ تردّ عليه سورة الدخان ، وتنفى أن يكون الخلق بلا غاية ولا هدف ، وأن يكون عبثا وخلقا عشوائيا ، وأن يكون العيش فى الدنيا اتفاقا ، كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٩) ، والمذهب الغائى هو دعوة القرآن ، والغائية يأنف منها اليهود ومن يذهبون مذهبهم ، وكان هايدجر