مدنية ، لأن عقبة لم يكن بالمدينة ، وقتل فى طريق مكة فى منصرفه من بدر. والذين قالوا إن الآيات مدنية ، حجّتهم أن الفاسق كان الوليد بن عقبة ، والوليد كان بالمدينة ، غير أن الوليد ما كان يستطيع أن يلاحى عليا بالمدينة ، ومن ثم فالراجح أن الآيات مكية ، والسورة كلها لذلك مكية ، وترتيبها فى المصحف الثانية والثلاثون ، وفى التنزيل الخامسة والسبعون ، وكان نزولها بعد سورة المؤمنين ، وسميت «السجدة» من قوله تعالى فيها : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٥) ، حيث السجود هو السمة الكبرى للمؤمنين بالقرآن ، وسورة السجدة ، كسورة مكية ، مدارها حول الإيمان بالقرآن ككتاب من عند الله ، وبرسالة محمد كنبىّ مرسل من عند الله تنزّل عليه القرآن. والسورة تستهل بالحروف المقطّعة (الم) (١) (ألف لام ميم) ، وهى الثالثة من ست سور تستهل بهذه الحروف ، تنبيها إلى أن القرآن ، وهو كتاب الله ، يتركّب من أمثال هذه الحروف التى يعرفها كل أهل مكة ، حقيرهم وكبيرهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يكوّنوا منها قرآنا كهذا القرآن ، فالقرآن هو كتاب الله المعجز ، وهو لا شك من عند الله ، وليس بسحر ، ولا بشعر ، ولا بكهانة ، ولا بأساطير ، ولا هو من اختلاق محمد وافترائه ، وإنما هو نذير لقوم ما أتاهم من قبل نذير ، فالعرب كانوا أمة أميّة ، لم يتنزّل عليهم كتاب ، ولا بعث إليهم رسول ، والقرآن نذير يعنى معلّم مخوّف ، ثم تعرّفهم السورة بالله الذى أنزل القرآن وأرسل محمدا : فهو الخالق القادر الذى أبدع وأوجد بعد العدم ، وبعد أن لم تكن هذه المخلوقات والكائنات شيئا ، وقد خلقها فى ستة أيام من أيامه تعالى ، ثم استوى على العرش ، وهو الكون ، وليست «ثم» للترتيب وإنما بمعنى الواو. وهو الله الذى يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ، والأمر هو القضاء والقدر ، يتنزّل به جبريل من «حول العرش» موضع التدبير ، وأما «ما دون العرش» فهو موضع التفصيل ، وما دون السموات موضع التصريف. ويتم التنزّل والصعود فى يوم كألف سنة من أيام الأرض ، والألف سنة للتشبيه ، والعرب تعبّر عن طول المدة أو كثرة الشيء بالألف ، وفى سورة المعارج عبّر عن اليوم بخمسين ألف سنة ، ولا تعارض ، وإنما يضرب بهذه الأرقام الأمثال ، وتفيد طول المدة كما ذكرنا ، وكل ذلك من علم الغيب ، ولا يعلمه إلا الله ، وهو عالم الغيب والشهادة ، أحسن كل شىء خلقه ، وأحكمه ، وجاء به على ما أراد ، ومن ذلك خلقه تعالى لآدم ، فقد خلقه ابتداء من طين ، ثم جعل خلقه من بعد ذلك من المنى المهين الضعيف ، ولمّا صنعه من طين سوّاه ، ثم ركّب فيه الروح ، وجعل له الحواس ، وعبّرت السورة عن الروح بالنفخ ، لأن الروح من جنس الريح. ومع كل هذه القدرة له تعالى ، فإنهم أنكروا البعث بدعوى أنه لا خلق جديد