رجل من القريتين عظيم؟ كان الردّ من القرآن : وربّك يخلق ما يشاء ويختار ، وما كان لهم الخيرة. فأكدت الآيات أنه تعالى هو الخالق وأن له المشيئة والخيار ، فلما ذكرت الآيات أنه تعالى هو الخالق المختار عقّبت بذكر بعض الأدلة والبراهين على عظمته تعالى ، تذكيرا للعباد بوجوب شكر نعمه ، ومنها جعله الليل والنهار متعاقبين ، فلم يجعلهما سرمدا إلى يوم القيامة ، وجعلهما لسكنى الناس ولمعايشهم ، وأوردت السورة قصة قارون ، كآية من آياته تعالى ، وهى قصة الطغيان بالمال ، وما كان من أمر انخساف الأرض به وبأمواله ، وهى نهاية كل مستعل مغرور. وكان قارون مضرب المثل فى الثراء المقيت ، فكان يأخذ من الناس ولا يعطى ، ويراكم المال ولا ينفقه فى سبيل الخير ، ولذة جمع المال وهواية هذا الجمع اضطراب نفسى وعقلى لا شك فيه ، كهواية جمع السلطة ، وجمع القوة ، والثلاثة : فرعون ، وهامان ، وقارون ، نماذج لأسوإ أنواع الطغيان ، والأول : طاغية مستبد فى مجال الحكم ؛ والثانى : طاغية فى مجال السلطة والنفوذ ، وإرهاب الناس ، وعسكرة الدولة ؛ والثالث : طاغية فى مجال الاقتصاد والمال. وبلغت ثروة قارون حدّ الخرافة ، حتى أن مفاتيح خزائن المال عنده كان حملها تنوء به العصبة أولوا القوة ، والعصبة كما فى سورة يوسف عشرة وهم إخوته بدونه ، فإذا كانت المفاتيح تحتاج لعزم عشرة من الأقوياء ، فما بالك بالثروة نفسها؟ وكلما خرج قارون على الناس بهرهم موكبه وأتباعه ، والزينة من حوله ، حتى ليتمنى ضعاف الإيمان لو لهم مثل ما له من حظوظ! وردّ عليهم العقلاء من أهل العلم والفهم : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) (٨٠) ، والويل دعاء بالهلاك ، والجنة درجة لا يبلغها إلا من صبر على مشيئة الله ، وزادت فتنة قارون فاستغنى عنه الله لمّا استغنى قارون عن الله والناس ، وبخل وشحّ ، وأنكر الربّ والبعث والحساب ، وتمادى ، وخسف به وبماله فما كان له من فئة تنصره من دون الله ، وأصبح من تمنّوا مكانه بالأمس نادمين ، يقولون : (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢) ، يعجبون من صنع الله ، وكيف أنه يوسّع الرزق لمن يشاء ، لحكمة لا يعلمها إلا هو ، لا عليه لمن يوسّع له رزقه ، ويضيّق الرزق على من يشاء ، لحكمة لا يعلمها إلا هو ، قضى بذلك ابتلاء لا لهوانه عليه. ولو لا أن الله يمنّ على الناس ويلطف بهم ، ويتفضّل عليهم ، لكان مصيرهم مصير قارون! وإن المدقّق ليخلص مما يشاهد من صروف الحياة وأعاجيبها ، إلى أن الجاحد بنعم الله ، الكافر به ، لا يجد السعادة فى الدنيا ولا فى الآخرة. وتنتهى قصة طغيان المال ، وما تنتهى عظاتها وعبرها ، ويعقبها مباشرة قوله تعالى تعليقا ، وتنبيها ، وتحذيرا ، وتعليما :