عليه بعد ما طال العهد بالناس منذ آخر شريعة نزلت عليهم ، فحرّفوها ، ونسوها ، وأهملوا العمل بها ، فأرسل الله نبيّه ليجدد ما تنوسى ، ويعدّل ما حرّف. وما كان النبىّ صلىاللهعليهوسلم من أهل مدين ليعلم بما حدث لموسى مع شيخها الكبير شعيب ، ومع وابنتيه ، فيخبر به أهل مكة ، ولكنه كان نبيا مرسلا ، أوحى له الله تعالى بما أوحى من ذلك القصص ليتلوه عليهم ، لعلهم يهتدون ، فما اهتدوا ، وسألوه تعنّتا وعنادا أن تكون له مثل حجج موسى ، ونسوا أن أمثالهم كفروا من قبل بحجج موسى ، ووصفوا موسى وهارون بأنهما ساحران تظاهرا ، وها هم يصفون محمدا بأنه ساحر ، وما نزل محمد بسحر ولا بمعجزات كمعجزات موسى ، وإنما معجزته القرآن كمعجزة موسى التوراة لو لم تحرّف ، ويصفهما الله تعالى بأنهما لا كتاب أهدى منهما ، فهما المعجزتان حقا ـ التوراة والقرآن ، ولا شىء مثلهما ، تعجيزا منه تعالى لكفّار مكة. والقرآن يصل التوراة. ولكى نعرف المحرّف من غير المحرّف فى التوراة علينا أن نميّز بين ما كان دعوة لتمجيد الله ، وما كان دعوة لتمجيد بنى إسرائيل ، وكل تمجيد لبنى إسرائيل فى التوراة فهو مزيف منحول. ومن أهل الكتاب من يعلم أن آيات التوراة حرّفت ، وأن حقيقة هذه الآيات هى التى وردت بمعانيها آيات القرآن ، وأنهم ـ أى أتباع موسى ـ كانوا مسلمين لذلك قبل الإسلام ، فمن أسلم من أهل الكتاب ـ واليهود خاصة ـ بعد الإسلام ، لهم أجران ، لأنهم مرة آمنوا بكتابهم ، ومرة آمنوا بالقرآن ، ولأنهم صبروا ، ويدرءون بالحسنة السيئة ، وينفقون مما رزقوا ، ويعرضون عن اللغو ، ويقولون لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، سلام عليكم ، لا نبتغى الجاهلين ، وسلامهم سلام متاركة ، لا يريدون به التحية ، وإنما المباعدة ، ولا يبتغون به أن يصاحبوهم ولا أن يخالطوهم.
ثم تتوالى الآيات فى الردّ على المكابرين ، كقولهم للنّبىّ صلىاللهعليهوسلم : لما ذا لا تهدى من أحببت مثل عمك أبى طالب؟ وكان الردّ من القرآن : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦) ، يعنى : هو أعلم بمن لديه الاستعداد للهداية فيهديه. وقالوا : إن اتبعوا النبىّ صلىاللهعليهوسلم ، عاداهم العرب ، وتمكّنوا منهم وتخطّوهم؟ وكان الردّ من القرآن : أنهم كان عندهم الحرم الآمن وهم كفّار ، أفلا يكون آمنا إذا آمنوا؟
وتتعاقب العظات : كم أهلك الله من قرية بطرت معيشتها ؛ وما كان الله ليهلكها إلا بعد أن يبعث إليها رسولا يتلو على أهلها آياته ؛ وما كان يهلك أهلها إلا وهم ظالمون ؛ وأن كل ما يخصّ الدنيا فهو من متاعها ؛ وأن ما عند الله هو الباقى ، وأن من يعده الله حسنا فهو لاقيه ؛ وأن من يتوب ويعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ، والترجّى فى القرآن بمنزلة التحقّق ، لأنه وعد كريم من ربّ رحيم ، ولمّا قالوا : لو لا نزّل القرآن على