الصدام بينه وبين إبراهيم صاحب القصة الثانية بعد قصة موسى. ومعنى اسم إبراهيم أنه أبو الجميع ، والذى ينحدر منه كل الموحدين والمؤمنين ، وأنه أبو الأنبياء. ولم يكن إبراهيم أول من دعا إلى (رَبَّ الْعالَمِينَ) (٧٧) فى بلده ، وفى السورة من هذا المعنى أن عبدة الأصنام عادوا إبراهيم ، إلا من كان من قومه يعبد ربّ العالمين ، فالدعوة إلى الله ووحدانيته كانت فى قومه من قبله ، وفى تعريفه لله ، كان إبراهيم موضوعيا أكثر من موسى ، فتعريف موسى كونى ، والله عنده إله الكون وخالقه ، وأما عند إبراهيم فالله خالقه هو نفسه ، وهو يهديه هو نفسه ، ويطعمه ويسقيه ، ويشفيه من الأمراض ، ثم يميته ويحييه ، وهو الذى يغفر له يوم الدين ، وكأن ملّة إبراهيم أكثر واقعية من ملّة موسى ، والله عند إبراهيم فى حياته ومن حوله ، وفى كل ما يفعل ويقول ، ولذلك دعا الدعوة لتناسب عقيدته : أن يهب الله له الحكم ، ويلحقه بالصالحين ، وأن تجتمع عليه الأمم ، وأن يكون من ورثة الجنة ، وأن يغفر لأبيه ، وأن لا يفضحه على رءوس الأشهاد يوم الدين ، وأن يسلم قلبه ، وخصّ القلب لأنه إن سلم القلب سلمت الجوارح كلها.
وفى قصة نوح نعرف أنه كان أخا لقومه ، وأخوته لهم أخوة نسب ومجانسة ، لا أخوة دين. ولأول مرة يأتى أن المؤمنين بالنبوة هم (الْأَرْذَلُونَ) (١١١) ، أى المستضعفون ، وهم محترفو المهن الوضيعة فى مجتمعهم ، وبلغة العصر هم البروليتاريا. وهذه التهمة ستستمر موجهة إلى كل الأنبياء حتى نبيّنا صلىاللهعليهوسلم ، والأرذلون أو المستضعفون : هم حملة الإيمان ، وهم فى الصف الأول خلف المفكرين والمصلحين ، ولما أراد ماركس مثلا أن يوجه إعلانه للعالمين ، وجّهه للعمال ، وقال فى منشوره : يا عمّال العالم اتّحدوا» ووجّه النبىّ صلىاللهعليهوسلم إعلانه للمستضعفين ، وكان اسم ربّه تعالى «ربّ العالمين» ، ووجّه الخومينى إعلانه للفقراء ، وكذلك جيفارا ، وبرودون ، وأصحاب المذاهب الاشتراكية والإصلاحية والفلسفية ، جميعهم توجّهوا للمستضعفين فى الأرض. والصراع بين جند الله وجند الشيطان ، يستوجب الصدام بين الأنبياء والمصلحين ، وبين أصحاب المصلحة فى استبقاء الأوضاع على ما هى عليه من السوء. والسجن والقتل والنفى ، والرجم من نصيب الأنبياء والمصلحين ، لأن السلطة والحكم فى يد من يملكون ، وإبراهيم حرّقوه ، ونوحا هددوه بالرجم ، وكان أول نبىّ يدعو على قومه ، فكان الطوفان المشهور وسفينة نوح مضرب الأمثال. ومن حكايات هؤلاء وغيرهم كعاد وثمود ولوط ، كانت النصيحة للنبىّ صلىاللهعليهوسلم ثم لأمته من بعده : أن لا يدعوا مع الله إلها آخر ، وحددت لهم السورة منهج الدعوة : بأن يبدأ الداعى بدعوة الأقربين ومن حوله ، وأن يكون لينا فى دعوته ، فإن عصوه فليتبرّأ منهم ولا شىء أكثر من ذلك ، وأن