من أتباعه. وفسّروا إخلاصه لدعوته بأنه مسحور. وكان بوسعه ، تبارك اسمه وعزّ قدره ، أن يؤتيه خيرا من ذلك لو يشاء ، قصورا وجنات. وما أرسل الله رسولا من قبله صلىاللهعليهوسلم إلا كان يأكل الطعام ويرتاد الأسواق ، ويتّجر ويحترف ، وهذه الدنيا دار بلاء ، ومشيئته تعالى أن يكون بعضنا فتنة لبعض ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغنى فتنة للفقير ، والفقير الصابر فتنة للغنى المتأفّف ، والغنى ممتحن بالفقير ، والفقير ممتحن بالغنى ، وكذلك الأنبياء يمتحنون بالضالين ، والضالون يمتحنون بهم ، والنبىّ ـ لأنه نبىّ ، كان فقيرا ، وليس كل فقير نبيا ، والمهم أن يصبر الجميع على البلاء. ولقد طلبوا أن تتنزّل عليهم ملائكة بدلا من النبىّ صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، أو أن يريهم ربّهم نفسه عيانا ، وأظهروا على النبىّ صلىاللهعليهوسلم كل الاستكبار والعتو ، وكانوا مجرمين ، ولكل نبىّ عدوّ من المجرمين. ويضرب الله الأمثال للرسول صلىاللهعليهوسلم برسل غيره وأقوام غير قومه ، تسلية له ولأمّته ، فهذا موسى آتاه الله الكتاب والفرقان هو وأخاه هارون فكذّبوهما ، فدمّرهم الله تدميرا ، وقوم نوح لمّا كذّبوا أغرقوا ، وعاد وثمود ، وأصحاب الرس وكثيرون غيرهم تبّرهم ربّهم تتبيرا ـ أى دمّرهم وجعلهم أمثالا ، وقوم لوط أمطرهم مطر السوء. وهؤلاء كفار قريش من أهل مكة استهزءوا بالنبىّ صلىاللهعليهوسلم وقالوا : أهذا المبعوث رسولا؟! إنه ليضل الناس ولا يهديهم ، وجحدوا الله وجعلوا إلههم هواهم. وما كان النبىّ صلىاللهعليهوسلم إلا مبشّرا ونذيرا ، وما طلب أجرا منهم لينفروا منه ، وما كانت دعوته إلا أن يعبدوا الله ، ويخاطبه تعالى مسليا : فتوكل يا محمد على الحيّى الذى لا يموت ، وسبّح بحمده ، وهو العليم بما أذنب هؤلاء ، ولسوف يتولى حسابهم.
والفرقان الذى أنكروه أنزله الله تعالى نذيرا لهم ، ولكنهم هجروه ، وطلبوا أن يتنزّل جملة واحدة ، قيل كما تنزّل التوراة ، وكما تنزّل الإنجيل ، وما علموا أن التوراة كتبت بعد نحو ثلاثمائة وخمسين سنة من نزولها ، وأنها لم تعد ألواح موسى ، وصارت أسفارا بمئات الصفحات ، وكذلك استكتب متى ولوقا ومرقس ويوحنا أناجيلهم بعد المسيح بما لا يقل عن ستين سنة ، ولم يكتبوها جملة ، وإنما بعد أن حدثت الأحداث ، وجرت الوقائع بما حوته واشتملت عليه. والقرآن تنزّل متفرّقا ليعيه المسلمون ويحفظوه ، ويعملوا به ويتقنوه ، وليظلوا على اتصال بالسماء أطول فترة ممكنة ، فتقوى قلوبهم ، فكان كلما نزل الوحى على النبىّ صلىاللهعليهوسلم تقوّى قلبه به وقلوب المؤمنين. والقرآن نزل جملة إلى السماء فى ليلة القدر ، ونجّمه السفرة الكرام على جبريل فى عشرين ليلة ، ونجّمه جبريل على النبىّ صلىاللهعليهوسلم فى عشرين سنة ، فهذا ـ كما قيل ـ قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) (الواقعة) يعنى نجوم القرآن : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) (الواقعة) ، وكان جبريل كلما