والصحيح أنه جاءهم بالحق ، إلا أن أكثرهم يكره الحق ، ولو اتّبع الحق أهواءهم لفسد ما فى السموات والأرض ، ولتنافت الآلهة مع تعدّدها ، وأراد بعضهم ما لا يريده بعض ، وهذا هو «دليل امتناع تعدّد الآلهة». وما كان للنبىّ أجر يحصّله منهم على دعوته حتى يكرهوه ، وما كانت دعوته إلا إلى الصراط المستقيم ، وهم لا يحبون الصراط المستقيم. وما كانوا يبالون مهما نوقشوا فى دعاواهم. ومهما نبّهوا إلى دلائل وجود الله وقدرته فى الكون ، فإنهم لا يبالون ، وأفرط وبعضهم ونسبوا لله ولدا ، والولد شريك ، ولو كان له شريك لذهب كل إله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض.
وتحدد السورة منهج الدعوة للنبىّ صلىاللهعليهوسلم ، فرغم كل هذه الافتراءات منهم ، قال تعالى له : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (٩٦) ، أى اصفح وجادلهم بالمنطق ، وتسمى هذه الآية آية موادعة ، لأنه فيها يوادعهم ، وأى منهج للدعوة يقول به البعض خلاف هذا المنهج الذى استنّه ربّ العزّة واتّبعه الرسول صلىاللهعليهوسلم ، غير مقبول ومن إيعاز الشيطان ، ولم يكن على النبىّ صلىاللهعليهوسلم حينئذ إلا أن يقول : (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨) ، وما كان لهم أن يعودوا إلى الدنيا إذا ماتوا مهما دعوا إلى الله ، فبين الدنيا والآخرة برزخ لا يجتاز ، ويوم ينفخ فى الصور لأول مرة يبعثون فلا أنساب بينهم ، وعند النفخة الثانية يسألون ، والذين تثقل موازينهم هم المفلحون الذين بدأت بهم السورة ، والذين خفّت موازينهم هم الخاسرون ، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ، أى عابسون ، وهيهات أن يخرجوا من النار ، وقد كانوا يسخرون من المفلحين فى الدنيا ، ويظنون أنهم ما لبثوا فى الدنيا إلا قليلا ، وهو حقّ بحسابه تعالى ، ولم نخلق فيها عبثا ، وكان عليهم أن يدركوا منذ البداية أنهم كما جاءوا إليها سيخرجون منها ويعودون إلى ربّهم ، وهو الذى لا إله إلا هو ، وكما يقول : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (١١٦) ، قيل ليس فى القرآن كله مثل هذه الآية فى الكمال والبيان ؛ ومن كانت دعوته إلى إله آخر خلافه تعالى فعليه أن يقدّم البرهان به ، وإن لم يفعل فحسابه عند الله. وكما قال فى أول السورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، يقول فى نهايتها (لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ). ثم أمر نبيّه صلىاللهعليهوسلم بالاستغفار لتقتدى به الأمة : (رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨). ولله الحمد والمنّة ، ونسأله تعالى أن يحيينا ويميتنا على القرآن السنّة ، آمين.
* * *
٦٠٥. سورة النور
السورة مدنية كلها بالإجماع ، وآياتها أربع وستون آية ، وكان نزولها بعد سورة الحشر ، وترتيبها فى المصحف الرابعة والعشرون ، وفى التنزيل الثانية بعد المائة. واسمها سورة النور