كانوا فى البحر وعصفت الريح دعوا الله مخلصين ، ولو أنجاهم عادوا للبغى فى الأرض! وكأنهم قد اطمأنوا للدنيا مع كثرة ما تنزل بهم نوازلها ، ولكنها محبة أن يعيشوا وتطول أعمارهم ، فالدنيا تعجبهم ، ويجدون فيها زخارفها وزيناتها ، مع أنه كلما ازيّنت كان ذلك إيذانا بنهايتها المرتقبة ، والله لا يدعو للدنيا وإنما لدار السلام ـ أى الجنة ، سمّاها «دار السلام» لأن من يدخلها يسلم من الآفات ، والسلام لا ينقطع عن أهل الجنة ، وهو تحيتهم ، ويسميها لذلك «الحسنى» ، ويعد بها الذين أحسنوا فى الدنيا ويعدهم بالزيادة عليها بأن يغفر لهم من الله تعالى ؛ وأما المسيئون فجزاء السيئة بمثلها ، ويحشرون جميعا ويزال بينهم ـ أى يفرّق ، وتبلى كل نفس ما أسلفت ؛ والله هو الرزّاق ، والمحيى والمميت ، وهو الحق ، فهل فيمن يدعون من دون الله من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ وهل منهم من يهدى إلى الحق؟ وليس ما يعبدون سوى الظن ، والظن لا يغنى من الحق شيئا. وهذا القرآن لو كان محمد قد افتراه ، لكان من الممكن أن يفترى غيره مثله ، فهل بوسع أحد من البشر أن يأتى بسورة مثله ، ولو يستعينون بمن يشاءون؟ ومحال أن يستطيعوا ، لأنهم ما حصّلوا من العلم شيئا ، وما يعلمون تأويل القرآن ليقلدوه ، وليسوا جميعا سواء حتى فى الكفر ، ومع ذلك فليس كل أهل مكة كافرين ، فمنهم المؤمنون وإن لم يصرّحوا ، ويكتمون إيمانهم ، وليس من ردّ على أهل الكفر إلا أن يقال لهم : إن لكل أعماله : المؤمنون والعصاة ، وأنّ كلا لبرئ مما يعمل الآخر ، وأن لكل أمة رسولا هو الشهيد عليها ، والله لا يعذّب حتى يبعث رسله ، ولكل أمة أجل ، فلا يستعجلون آجالهم ، ولا يتعجلون العذاب ينزل بهم ، فالعذاب قادم لا محالة ، وهو عذاب أبديّ. وأما أولياء الله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولهم البشرى فى الدنيا والآخرة ، ولا يفلح الذين يفترون على الله الكذب. وهذا نوح كذّبه قومه ، فنجّاه الله ومن معه فى الفلك ، وبعث من بعده موسى وهارون إلى فرعون ، فاعتقدهما ساحرين ، وأبطل الله سحر فرعون ، وكان فرعون من العالين والمسرفين ، وقال موسى وقومه : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) (٨٥) ، ودعوا ربّهم فقالوا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦) ، ودعا موسى على فرعون وقال : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨) ، وأجيبت دعوته ، وجاوز به الله وبقومه البحر ، وأتبعه فرعون وجنوده بغيا وعدوا ، حتى إذا أدركه الغرق قال : (آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠) ، ونجّاه الله ببدنه ليكون لمن خلفه آية يشهدها قومه. وهذا هو القصص الحق ، وكل من يشك فى هذا القصص فليعد إلى كتب