كلّ فى حياته العادية ، وكأنما كان نزول الإسلام حركة انقلاب تحولت بها زعامة العرب من فئة الكافرين إلى فئة المؤمنين ولا أكثر من ذلك. ولكن سورة براءة وضعت حدا للمشركين والكفار والمنافقين ، ونحّتهم عن الحياة العامة ، ومنعت أن يكون لهم الغلبة على التكوين العام للعقلية العربية ، وطبعت المجتمع بالطابع الإسلامى الصرف ، وميّزت المسلمين عن غيرهم ، وأوضحت بشكل لا لبس فيه أهداف الإسلام نحو إنشاء الدولة الإسلامية ، والتأسيس لنوعية التربية والتعليم الإسلاميين. وفضحت السورة المعارضين ، وأوجزت فى عبارات بليغة نقدها لفلسفاتهم ، ودللت على تفاهة معتقداتهم وتهافت مذاهبهم التى يصدرون عنها ، وأعلت من شأن الإسلام وكلمة الحق والدين ، وجعلت السورة مهلة أربعة شهور لمن كانت بينه وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم عهود ، ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر يتم له عهده ، كقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤) ، ولم يبدأ الرسول صلىاللهعليهوسلم بقطع العهد ولكن الذى قطعه كان أهل مكة ، وذلك أنه كان قد تصالح وقريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب ، فعدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا العهد ، وأعانت قريش بنى بكر بالسلاح والرجال ، فانهزمت خزاعة ، فكان ذلك نقضا لصلح الحديبية ، وذهب الخزاعيون إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم مستغيثين به ، فقال : «لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب» ـ يعنى خزاعة ، وتجهّز الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى مكة ففتحها سنة ثمان هجرية ، واتجه إلى هوازن وكانت وقعة هوازن يوم حنين فى أول شوال سنة ثمان ، وحاصر الطائف ، ثم انصرف إلى الجعرانة ، وفى رجب من سنة تسع اتجه إلى غزوة الروم التى هى غزوة تبوك ، ونزلت براءة قبل الغزوة وأثناءها وبعدها. والسورة فيها جواز نقض العهد ، وقيل إن العهد قد نسخ ولم يكن ذلك نسخا وإنما نقض له أسبابه ، وأعلن النقض يوم الحج الأكبر ـ وهو مصطلح إسلامى ، قيل هو يوم عرفة ، وقيل هو يوم النحر ، والصحيح أنه يوم النحر ، وسمى يوم الحج الأكبر بقول النبىّ صلىاللهعليهوسلم فيه : «هذا يوم الحج الأكبر» ، كمقابل لقول الناس الحج الأصغر ، وبناء على إعلان براءة الله ورسوله من المشركين ، لم يحج مشرك عام حجة الوداع الذى حجّ فيه النبىّ صلىاللهعليهوسلم. ويوم الحج الأكبر : يهراق فيه الدم ، ويوضع فيه الشّعا ، ويلقى فيه التفث (الوسخ) ، وتحل فيه الحرم ، وهو يوم الحج كله.
وفى السورة أن الشهور الأربعة هى الشهور الحرم ، أو شهور العهد ، وإذا انسلخت ، يباح قتل كل مشرك باستثناء المرأة والراهب والصبى والزمن ، وتمنع المثلة ؛ وقيل إن الآية : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ