معه ما ينفقه. وفى سورة الأنفال يأتى تسمية يوم بدر : (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) ، سمى كذلك لأنه اليوم الذى يفرق بين الحق والباطل ، والذى جرت فيه لأول مرة مصارع الطغاة ومهاوى الجبابرة ؛ وفى بدر كان اشتراك النبىّ صلىاللهعليهوسلم لأول مرة فى القتال ، ولأول مرة قاد جماعته وتجلّى حبّه للشورى ، وللقيادة الجماعية ، وللرجوع للجماعة والأخذ برأيهم ، فلما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك ، أى أول ماء وجده ، فتقدم إليه الحبّاب بن المنذر فقال : يا رسول الله ، هذا المنزل الذى نزلته ، منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه ، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال : «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة» ، فقال : يا رسول الله ، إن هذا ليس بمنزل ، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلى القوم ونغور ما وراءه من القلب ، ونستقى الحياض ، فيكون لنا ماء وليس لهم ماء ، فسار رسول الله صلىاللهعليهوسلم ففعل ذلك. وأنزل الله المطر عليهم فأطفأ به الغبار ، وبه تلبدت الأرض ، وطابت نفوسهم وثبتت أقدامهم. وليس فى السورة أن الملائكة اشتركت فى القتال فى بدر ولكن ذكرها كان ملهبا لحماس المسلمين ، ومثبّتا للذين آمنوا ، وربط على قلوبهم. وكان انتشار الإشاعة أن الملائكة تحارب مع المسلمين ، مما بعث الخوف فى قلوب الكافرين. وأرعبهم أكثر أن يقبض الرسول صلىاللهعليهوسلم من التراب ويحصب به وجوه الكافرين ، فولّوا مدبرين ، وكانوا كلما اقتربوا منه يقبض من التراب قبضة ويرمى به فى وجوههم وهو يقول «شاهت الوجوه» ، وفى مثل ذلك نزلت الآيات : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٧) ، وفى الآية الكثير من الحكمة ويستشهد بها فلاسفة المسلمين الذين تكلموا فى القدر والكسب ، وهى تبين أنه تعالى خالق أفعال العباد ، والمحمود على جميع ما يصدر منهم من خير يوفقهم إليه ، ويعينهم عليه ، يقول : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ، أى ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، بل هو الذى أظفركم عليهم ، كما قال : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢٣) (آل عمران) ، فالنصر غير مرهون بكثرة العدد والعدد ، وإنما النصر من عنده تعالى كما قال : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢٤٩) (البقرة). ولقد كان هواهم يوم بدر أن يتركوا الأسرى لقاء الفدية ، وأنكر عمر عليهم ذلك ، واختار عمر النفير على العير ، واختار النبىّ صلىاللهعليهوسلم الفداء لأنه كسب بلا قتال ، كقوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧) ، وغير ذات الشوكة هى البعير ، وأما ذات الشوكة فهم الأسرى من الصناديد ، ونزلت الآيات : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ