وفى السورة قصة بلعام بن باعوراء ، وكان مثلا مخزيا لعلماء السوء ، فصوّرته السورة بأشنع وأقبح ما يتخيّل لعالم يبيع دينه لقاء أن يرضى الحاكم ، ويوظّف علمه لتبرير ظلمه ، ولو شاء الله لأماته قبل أن يضل ، ولكنه أخلد إلى الأرض بضلاله ، وسكن إلى ملذات الدنيا ، وهوى المضلين والكافرين ، فكان مثله كمثيل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث ، فهو يلهث على كل حال ، فكذلك الذى يترك الهدى ويفتى للحكام الظلمة ، فإن وعظته ضلّ ، وإن تركته ذلّ ، والناس فى حال الكلال تلهث ، وفى حال الراحة لا تلهث ، إلا الكلب فإنه يلهث فى كل حال ، فى الكلال والراحة ، وكذلك هذا العالم الذى لم يفد من علمه إلا غضب الله ، فلا هو ترك نفسه للجهل ، ولا هو هدى لما تعلّم ، فكان فى الحالين سواء ، وهذه أبشع صورة لمن يرزقه الله العلم النافع ، فيستغله خزيا ووبالا عليه ، ويتّبع الشيطان فيكون من الغاوين.
وتختم السورة بإثبات أن أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، هى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ، وما كان محمد مجنونا كما ادّعى اليهود ، قالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) (الحجر) ، فنفته الآية (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤) ، وكان أبلغ الردّ عليهم قوله تعالى للنبىّ صلىاللهعليهوسلم : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) ، وفى هذه الكلمات السبع قواعد الشريعة كلها فى المأمورات والمنهيات ، وليس فى القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. ويظاهرها فى الحديث : «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» أخرجه الحاكم. ولما نزلت (خُذِ الْعَفْوَ) قال صلىاللهعليهوسلم : كيف يا ربّ ـ والغضب؟» فنزلت : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠) ، وتتابعت الآيات كلها تحضّ على الإيمان والخير والصلاح ، قال : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤) ، ردا على قولهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) (فصلت) ، وخاطب الله تعالى نبيّه صلىاللهعليهوسلم ـ والمقصود أمته كلها ، قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٢٠٥) ، وأخبره تعالى عن أهل السماء : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦). والسجود فى هذه الآية خاتمة الأعراف ، وهو أول سجود فى القرآن ، وكان آخر سجود فى خاتمة العلق. والله الموفق والمستعان ، وله الحمد والمنّة.
* * *
٥٨٩. سورة الأنفال
السورة مدنية إلا من الآية الثلاثين التى تقول : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ