يظن أحد أن سفر القضاة كتبه القضاة أنفسهم ، وإنما الظن أن كاتبه شخص واحد ، وأنه كتبه بعد زمن القضاة ، لأنه فى نهاية الفصل الحادى والعشرين منه قال : فى تلك الأيام لم يكن لبنى إسرائيل ملك ، وكان كل إنسان منهم يعمل ما حسن فى عينيه» ، ومثل هذا الكلام لا يمكن أن يكون قد كتب إلا بعد عهد الملوك وليس قبل ذلك! وكذلك لم يكتب الملوك أسفار الملوك الأربعة ، وكاتبها جمع هذه القصص مما كان يروى من أخبار عن سليمان وملوك يهوذا وإسرائيل! وهذه الأسفار لا يمكن أن يقال عنها أنها دينية ، والحديث فيها ممل وجاف. ومن رأى سبينوزا : أن عزرا ربما هو الذى صاغها هذه الصياغة فجاءت دون ترتيب ولا تحقيق ، بدليل أن الروايات نفسها تتكرر فى الأسفار بألفاظ مختلفة ، وتضطرب أزمنتها وتتداخل ، ويردّ سبينوزا ذلك إلى جبلّة فى اليهود : أنهم يعجزون عن السرد الروائى المنظّم ، وأن الزمان عندهم لا قيمة له ، فالماضى كالحاضر ، كالمستقبل ، والجميع سواء ، والسرد الروائى لذلك لا يعرف الترتيب ولا التتابع الزمنى ، ويجهلون البناء المنطقى للأحداث ، وأن يكون لها نسق. وكتّاب التوراة لم يعرف لهم منهج ولا قاعدة فى السرد والرواية ، وليس لليهود كأمة أو كشعب «ذات جماعية» واحدة ، فكل راو يفسّر الأحداث على هواه ، وينتقى منها ما يشاء ، ولذلك فإن من يتصدّى بالتفسير لهذه التوراة سيجد الكثير مما يمكن أن يتشكك فيه ، وسيتبين أن الكلام فى الكثير من الفقرات أبتر ، وأن هناك الكثير من العبارات قد أسقطت ، وأن التعاليم الأخلاقية تصادم بشدة بالأفعال التاريخية التى يقوم بها الملوك ، وأن موسى ويشوع استخدما السيف وأشبعا الشعوب قتلا ، وأزهقوا أرواح الأطفال والنساء ، ولم يعفوا أحدا من الذبح ، فكيف يمكن أن يقال عن هؤلاء أنهم دعاة إلى الله ، وأن لهم شريعة ، وأنهم أولى بحكم العالم؟ وأن التوراة حافلة بالأسرار والحكم ،؟ وهو ما يدّعيه القباليون أو الأصوليون أو السلفيون من اليهود ، وما يزعمه المتعصبون المتطرفون فى الوطنية؟ ويتطرق سبينوزا إلى كل سفر من الأسفار ، ويثبت التدليس والتحريف فيه ، ويعجب من إدخال سفرىّ أخبار الأيام ضمن الكتاب المقدس ، فالنص فيهما غير متسلسل ، وفيهما تعميم وابتسار ، ثم إن كاتبهما منحاز إلى ملوك يهوذا دون ملوك إسرائيل. والمعتقد أن سفر نحميا وسفر عزرا يماثلان فى التأليف سفرىّ أخبار الأيام ، والأرجح أن الأسفار الأربعة لمؤلّف روائى واحد ، وأنه اتّبع فى تأليفه لأخبار الأيام ما وجده فى أسفار الملوك وأضاف تفاصيل أخرى وزيادات.
واستبعد سبينوزا من الكتاب المقدس الأسفار المنتحلة ، وهذه الأسفار فى ظنه لم يكتبها عزرا وإنما ألّفها الفريسيون تأليفا ، فاستبعدوا ما شاءوا ، وأثبتوا ما شاءوا ، واستنكر