ينس التشريع ، كما فى قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (١٥١) (الأنعام). وعند ما يبدأ معلم فى التعليم ، فإنه أول ما يعطى تلاميذه المبادى ، فكلما تقدّموا وزاد استعدادهم للتلقّى والاستيعاب ، زادت مقرراتهم ، وهذا ما جرى فى مكة أولا ، ثم فى المدينة ثانيا ، مرحلة بعد مرحلة ، ولكل مرحلة ما يناسب وسع الناس.
* * *
٤٥٤. شبهة الانحطاط الثقافى فى القسم بالحسيّات
قال المستشرقون : إن السّور المكية فيها القسم بالحسيّات ، مثل قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (١) (سورة التين) ، و (الضُّحى) (١) (الضحى) ، وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) (٢) (الليل) إلخ ، وهو دليل على أن المخاطبين بهذه الحسيّات هم حسيّون ، ومداركهم حسيّة ، على عكس الناس فى المدينة فإنهم أميل إلى المجرّدات ، واختلاف السور المكية عن السور المدنية دليل على أن محمدا هو مؤلف القرآن ، لأنه تأثر بالمناخ الحسّى فى مكة ، ثم بالمناخ التجريدى فى المدينة؟ والجواب : أنه لكى يفهم أهل مكة معنى التوحيد ، لا بد أولا أن يعرفوا عن الله ، وأنه خالق الكون وبديع السماوات والأرض ، فكانت السور المكية حسّية كونية لهذا السبب ، ثم لما ذا الإقلال من شأن الحسّيات وهى أشياء بها من الأسرار والخبايا العلمية والإبداعية ما يحيّر ويذهل كل عاقل لبيب ، فالحسّيات عند التأمل تؤدّى إلى مسائل تجريدية وفكرية هائلة!
ولم يكن اعتباطا اختيار هذه الحسيّات دون غيرها فى هذه السورة أو تلك ، فقسمه تعالى بالتين والزيتون وطور سينين له دلالته التأويلية ، فالتين كانت به بداية الخلق ، ويذكّر بورق التين الذى خصف آدم نفسه به ليخفى عريه لمّا عصى ؛ والزيتون إشارة إلى بداية الحياة مع نوح بعد الطوفان فكانت أغصان الزيتون هى أول ما عثر عليه نوح من نباتات الأرض ، وسيناء كان بها نزول شريعة موسى كأول شريعة مكتوبة ، فهذه مراحل ثلاث من تاريخ الإنسانية كانت علامات كبرى فيها ، ولم يكن القسم بالتين والزيتون وطور سينين لمجرد أنها حسيّات!
* * *
٤٥٥. شبهة أن تكون الحروف المقطعة وضعها كتبة اليهود
قالوا : إن القسم فى القرآن بالحروف المقطّعة فى أوائل السور ، مثل قوله تعالى : «كهيعص» : (مريم) ، ليس فيه بيان ولا هدى للناس ، فحتى الراسخون فى العلم لا يعرفون ما ذا تعنى هذه الحروف ، والخطاب بها كالخطاب بالمهمل ، وادّعوا أنه كان للنّبىّ كتبة من