إن الملائكة لمّا تعجبت من مخالفة بنى آدم وقالوا لو كانوا مكانهم ما عصوا الله ، فأمرهم ربّهم أن يختاروا اثنين منهم فيهبطان إلى الأرض ويحكمان فى الناس ، فاختاروا هاروت وماروت ، وجاءا الأرض ، فعرضت لهما امرأة يقال لها زهرة ، فطلباها فامتنعت ، إلا أن يعبدا صنما ، أو يشربا خمرا ، أو يقتلا نفسا ، ففعلا. ثم تعلّمت منهما كلمات صعدت بها إلى السماء ، فمسخت إلى نجم الزهرة جزاء صعودها. وأما الملكان فخيّرا بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا ، فهما الآن يعذّبان فيها. ولم ينكر الآلوسي القصة ولكنه اختار لها معنى إشاريا ، وقال إن المراد بهاروت وماروت العقلين : العملى والنظرى ، وهما من عالم القدس ، وأما المرأة المسماة زهرة فهى النفس الناطقة. ولو لم تكن نزعة التصوف عند الآلوسي ما انحرف ذلك الانحراف عمّا كان عليه من إنكار الإسرائيليات ، وإيراده لهذه القصة كما يقول : إنما للمعنى الإشارى أو الصوفى بها ، ولو لا ذلك لما تعرّض للقصة أصلا. وقريبا من ذلك إيراده لقصة عن كعب الأحبار وقيس بن خرسة ، فقد مرّا على مكان بالعراق قرب صفّين قبل أن تجرى الوقعة فيها بين علىّ ومعاوية ، وتوقف كعب وقال متنبئا : ليهراقن هنا من دماء المسلمين شىء لا يهراق ببقعة من الأرض! فقال له قيس : ما يدريك ، فإن هذا من الغيب الذى استأثر به الله؟! فقال كعب : ما من الأرض شبر إلا مكتوب فى التوراة الذى أنزل الله على موسى : ما يكون عليه ، وما يخرج منه إلى يوم القيامة؟!! ولم يرفض الآلوسي القصة ، ولم يسخر منها كعادته ، ولكنه تعلّل لها وقال : لعلّ ذلك من باب الرمز كما ندّعيه فى القرآن!!! ـ فأولا : قال ندّعيه ، ونحن لا ندّعى مثل هذا التفسير ، وثانيا أنه فى القرآن لا يمكن أن يقال فيه ما قاله كعب فى التوراة ، أنه ليس فى العالم ولا فى الأرض شبر إلا قد كتب فيه ـ أى القرآن ـ ما يقع فيه ، وما يخرج منه ، فكيف يصدّق ذلك عن التوراة ويسكت عليه؟!! وشبيه به سكوته عن ماهية ألواح موسى : كم عددها ، ومن أى خشب كانت؟ وبيّن أنهم اختلفوا فى عددها بين اثنين وسبعة وعشرة ، وأنها كانت من الزمرد أو الزبرجد ، أو من ياقوتة ، وروى الحديث الذى ينسبونه إلى النبىّ صلىاللهعليهوسلم : «الألواح التى نزلت على موسى كانت من سدر الجنة ، وكان طول اللوح اثنى عشر ذراعا» ـ ونقول : وهل كان موسى يقدر أن يحملها إذن؟ وقالوا : إن الألواح كانت من صخرة صماء ، ليّنها الله له ، وقطّعها بيده ، وكتب عليها ـ أى الله ـ بأصابعه! كل ذلك من الأباطيل كما ترى ، ولو لا أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبه ، ما عرفها الصحابة البسطاء ، ولأنهم كانوا بسطاء صدّقوا ، ولم يمحّصها الرواة من أمثال الآلوسي. ومن ذلك ما ذكره أهل الكتاب عن عصا موسى التى ضربت الحجر فانفجرت