فضلت عن الآكلين من خمسة أرغفة الشعير ، فلما عاين الناس الآية التى عملها يسوع ، قالوا : فى الحقيقة هذا هو النبىّ الآتى إلى العالم!». (يوحنا ٦ / ٤ ـ ١٤). وكما ترى فإن الروايات النصرانية فى هذه المائدة مختلفة بشدة ، فمرة الأرغفة سبعة واليسير من السمك ، والآكلون أربعة آلاف سوى الصبيان والنساء ، والمتبقى من الطعام يملأ سبع سلال ؛ ومرة الأرغفة خمسة ، والسمك اثنتان ، والناس نحو خمسة آلاف ، والمتبقى من الطعام يملأ اثنتى عشرة قفة ، وفى الروايتين أنهم كانوا فى صيام ، وأن المدعوين هم الفقراء والمحتاجون. والدرس المستفاد هو ما قاله الناس : «هذا حقا هو النبىّ الآتى إلى العالم»! وأما رواية القرآن فتأتى فى سورة المائدة ، وتتسمى السورة باسم هذا الحدث الفريد والمعجزة الخارقة ، فلما آمن الحواريون وأشهدوا عيسى بإسلامهم ، وكانوا فى صيام ، سألوه أن يدعوهم إلى طعام من عند الله ، قالوا : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١١٥) (المائدة). وقولهم : «هل يستطيع ربّك» ليس شكّا فى الله ، ولكن بمعنى «هل يطيعك ربّك إن سألته أن ينزّل عليك مائدة؟ وما كان ينبغى أن يسألوه هذا السؤال ، إنما لأنهم كانوا فى ابتداء استنصارهم ، ولذلك ردّ عليهم عيسى : «اتقوا الله إن كنتم مؤمنين» ، لمّا سمع غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز ، لأنهم كانوا كحواريين خلصاءه وأنصاره ، كما قال : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) (٥٢) (آل عمران) ، فكان ينبغى عليهم وهم الذين بلغهم من نبيهم ما يجب لله وما لا يجب ، أن لا يقولوا ما قالوا ، كقول بعضهم لمّا سألوا النبىّ صلىاللهعليهوسلم أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ، وهى شجرة كان المشركون يتباركون بها وينوطون بها سلاحهم ، أى يعلقونه ، ويعكفون حولها ، فسألوه أن يجعل لهم مثلها. وكذلك فعل قوم موسى لمّا قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (١٣٨) (الأعراف). ولم يكن الحواريون يتعللون لعيسى ، فهم مؤمنون عارفون عالمون ، وإنما المعنى كما قد تسأل عزيزا لك معروفا فتقول له : هل تستطيع أن تفعل هذا؟ وأنت تعلم أنه يستطيع ، والحواريون علموا ذلك علم دلالة وخبر ونظر ، فأرادوا أن يكون علمهم علم معاينة ، كما قال إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (٢٦٠) (البقرة) ، وكان إبراهيم يعلم علم خبر ونظر ، فأراد المعاينة التى لا يدخلها الريب