وأما قصة زكريا فى القرآن فموضوع آخر تماما ، وفى سورة الأنعام يأتى أن زكريا من الصالحين (٨٥) ، وأن ربّه فضّله على العالمين (٨٦) ، ويظهر تفضيله بأن تستهلّ به سورة مريم ، فيصفه الله تعالى بأنه عبده ، وأنه رحمة ، وينبّه إلى معنى اسمه فى أول كلمة من السورة «ذكر» ، حيث الاسم كما سبق يعنى المذكور ، أو المذكور بالخير ، يقول تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢) (مريم). والقرآن لا يتابعه من مبتدأ حياته وإنما وهو فى شيخوخته وقد أوغل فى العمر ، وكانت امرأته عاقرا ، وهذا هو الذى جعله يكفل مريم ، والكفالة هنا معناها التبنّى ، فقد كانت مريم يتيمة ، ومات أبوها وأمها حامل فيها ، فلمّا رأى بركات الله على مريم ، وأن الله يرزقها بغير حساب ، تحركت فيه غريزة الأبوة ، وتمنى لو كان له ولد : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦) (مريم) ، وذكر العظم فى دعائه أو شكايته ، لأن العظم عمود البدن وأصل بنائه ، وبه قوامه ، لأنه أشد ما فيه وأصلبه ، فإذا وهن كان ما وراء العظم أوهن منه ، وتداعت به سائر قوته وتساقطت ، وأهل الطب يسمون هذا الوهن : هشاشة العظام ، ولا تتبين الهشاشة إلا فى الشيخوخة المتأخرة ، وفيها يشتعل الرأس شيبا ، والاشتعال من شأن النار تنتشر بسرعة ، وكذلك كانت شيبة زكريا ، دبت فى رأسه بسرعة ، وظهرت علاماتها لا تخطئها العين ، حتى أتت على الرأس كلها ، وطبعت أطراف الشعر ومنابته. وموقف زكريا كان الأولى فيه أن يذكر نعم الله عليه ، ولكنه وصّف حاله ، وأظهر ضعفه ، وأوضح أنه ما طلب من ربّه طلبا ولا دعا بشيء ، إلا استجاب له ، ومعنى (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٤) ، يقال «شقى بالشىء» إذا تعب فيه ولم يحصل عليه ، وزكريا كان يتحقق له ما يتمنى ، وخوفه من الموالى ـ أى الأقارب من عصبته التى ترثه ، كان يخاف أن يرثوه كلالة ، وأشفق أن لا يكون وريثه ولده من صلبه ، والوراثة فى حالة زكريا وراثة مال وعلم ونبوة ، ولذا قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (مريم ٦) ، فالمال يرثه منه ، ومن آل يعقوب يرث الحكمة النبوة ، ويعقوب هو النبىّ ابن إسحاق وحفيد إبراهيم. والمشكلة فى حالة زكريا أنه كان عقيما بحكم السن ، وكانت زوجته عاقرا بطبيعتها ، قيل : اسمها اليصابات ، وهو اسم يونانى ، وبالعبرية هى اليشبع ، ومعنى الاسم «قسمة» ، وربما كانت قريبة لحنة أم مريم ، وقد تكون أختها ، والحديث عن النبىّ صلىاللهعليهوسلم يحتج به ، يقول : «فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى» ، ويحيى ابن اليصابات ، بينما عيسى ابن مريم ، والمعنى أن اليصابات ومريم أختان ، والصحيح أنهما ليستا أختين ، والحديث كما نرى ، لا يجزم بأنهما