بسيط ، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء. وجهل مركب وهو أن يعتقد في الحق أنه باطل ، وفي الباطل أنه حق. والسفه أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده. فبيّن تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم ، فإن ذلك لسفه نفسه ، وذلك أعظم مذمة ، فهو مبدأ كل نقيصة. وذاك أن من جهل نفسه ، جهل أنه مصنوع ، وإذا جهل كونه مصنوعا جهل صانعه ، وإذا لم يعلم أن له صانعا ، فكيف يعرف أمره ونهيه ، وما حسّنه وقبّحه؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه ، قال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ ، أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] ، وقال : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر : ١٩].
وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة ، وتكثير الأنبياء من نسله ، وإعطاء الخلة ، وإظهار المناسك عليه ، وجعل بيته آمنا ، ذا آيات بينات إلى يوم القيامة. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين لهم الدرجات العلى ، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح ، حيث جعله من المتصفين بها ، فهو حقيق بالإمامة ، لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين ، ففي ذلك أعظم ترغيب في اتباع دينه ، والاهتداء بهديه. وأشدّ ذم لمن خالفه.
قال الراغب : إن قيل كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا ، وبالصلاح في الآخرة ، والنظر يقتضي عكس ذلك. فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل ، وذلك يكون في الدنيا. والاصطفاء حال يستحقه العبد بكونه صالحا ، فحقه أن يكون في الآخرة؟ قيل : الاصطفاء ضربان ، أحدهما كما قلت ، والآخر في الدنيا ، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته بخصوصية فيه ، وهو المعنيّ بقوله (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ) [النحل : ١٢١] ، والصلاح ، وإن اعتبر بأحوال الدنيا ، فمجازى به في الآخرة ، فبيّن تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما علم الله من حكمته فيه ، ومحكوم له في الآخرة ، بصلاحه في الدنيا ، تنبيها أن الثواب في الآخرة لم يستحقه باصطفائه في الدنيا ، وإنما استحقه بصلاحه فيها. ويجوز أن يكون قوله (فِي الْآخِرَةِ) أي في أفعال الآخرة لمن الصالحين. ويجوز أنه عنى بقوله (فِي الدُّنْيا) حال بقائه ، و (فِي الْآخِرَةِ) أي حال وفاته ، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه ، الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤] ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب : ظالم ، ومقتصد ، وسابق ، عبر عن السابق بالصالح ، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح. انتهى.