لكيلا (١) يخجل إخوته بعد ما قال لهم : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [يوسف : ٩٢] ، ولأنه نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم ، لأنه بعد الخروج من الجبّ صار إلى العبودية والرق ، وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك ، ولأن وقوعه في البئر كان لحسد إخوته [له](٢) ، وفي السجن كان مكافأة من الله تعالى لزلّة كانت منه. (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) ، والبدو بسيط (٣) من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم ، وكانوا أهل بادية ومواشي ، يقال : بدا يبدو [بدوا](٤) إذا صار إلى البادية. (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ) ، أفسد ، (الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ، بالحسد والبغض ، (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ) ، أي : ذو لطف ، (لِما يَشاءُ) ، وقيل : معناه لمن يشاء. وحقيقة اللطيف الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرّفق ، (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ، قال أهل التاريخ : أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش ، ثم مات بمصر فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ، ففعل يوسف ذلك ، ومضى به حتى دفنه بالشام ، ثم انصرف إلى مصر. وقال سعيد بن جبير : نقل يعقوب عليهالسلام في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ، فوافق ذلك موت العيص فدفنا في قبر واحد ، وكانا ولدا في بطن واحد ، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة ، فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله على أنّ نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حسن العاقبة ، فقال :
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ، يعني : ملك مصر ، والملك : اتّساع المقدور لمن له السياسة والتدبير ، (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ، يعني : تعبير الرؤيا. (فاطِرَ) ، أي : يا فاطر ، (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : خالقهما ، (أَنْتَ وَلِيِّي) ، أي : معيني ومتولّي أمري ، (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً) ، يقول : اقبضني إليك مسلما ، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ، يريد بآبائي النبيّين. قال قتادة : لم يسأل نبيّ من الأنبياء الموت إلّا يوسف [عليهالسلام](٥). وفي القصة : لما جمع الله شمله وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربّه عزوجل فقال هذه المقالة. قال الحسن : عاش بعد هذا سنين كثيرة. وقال غيره : لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفّي. واختلفوا في مدّة غيبة يوسف عن أبيه ، فقال الكلبي : اثنتان وعشرون سنة. وقيل : أربعون سنة. وقال الحسن : ألقي يوسف في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. وفي التوراة مات وهو ابن مائة وعشرين (٦) سنة وولد ليوسف من امرأة العزيز ثلاثة أولاد : أفرائيم وميشا ورحمة امرأة أيوب [المبتلى](٧) عليهالسلام. وقيل : عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة. وقيل : أكثر. واختلفت الأقاويل فيه. وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة ، فدفنوه في النيل في صندوق من رخام ، وذلك أنه لما مات تشاح الناس فيه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلّتهم رجاء بركته ، حتى همّوا بالقتال ، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث يتفرّق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم.
__________________
(١) في المخطوط «كيلا».
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) في المخطوط «البسط».
(٤) زيادة عن المخطوط.
(٥) زيادة عن المخطوط.
(٦) في المطبوع «عشر».
(٧) زيد في المطبوع وط.