أي : عن هذا الميثاق والإقرار ، فإن قيل : كيف يلزم الحجّة واحد لا يذكر الميثاق ، قيل : قد أوضح الله الدلائل على وحدانيّته وصدق رسله فيما أخبروا ، فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجّة ، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة.
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥))
قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) ، يقول إنما أخذت (١) الميثاق عليكم لئلا تقولوا أيّها المشركون إنّما أشرك آباؤنا من قبل ونقضوا العهد وكنّا ذرية من بعدهم ، أي : كنّا أتباعا لهم فاقتدينا بهم فتجعلوا هذا عذرا لأنفسكم وتقولوا ، (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) ، أفتعذّبنا بجناية آبائنا المبطلين فلا يمكنهم أن يحتجّوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد.
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) ، أي : نبيّن الآيات ليتدبّرها العباد ، (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، من الكفر إلى التوحيد.
قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) الآية ، اختلفوا فيه ، قال ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء. وقال مجاهد : بلعام بن باعور. وقال عطية عن ابن عباس : كان من بني إسرائيل. وروي عن عليّ بن أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان من الكنعانيّين من مدينة الجبارين. وقال مقاتل : هو من مدينة بلقا.
وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم (١) : أن موسى لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إلى بلعام (٢) ، وكان عنده اسم الله الأعظم فقالوا : إن موسى رجل شديد ومعه جند كثير ، وأنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلّها بني إسرائيل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله أن يردّهم عنّا ، فقال لهم : ويلكم نبيّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ، فراجعوه وألحّوا عليه فقال : حتى أؤامر ربي ، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به في المنام فآمر في الدعاء عليهم ، فقيل له في المنام : لا تدع عليهم ، فقال لقومه : إني قد آمرت ربي وإني قد نهيت فأهدوا إليه هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقال : حتى أؤامر ربّي فآمر ، فلم يوح إليه شيء ، فقال : قد آمرت فلم يوح إليّ شيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرّة الأولى ، فلم يزالوا يتضرّعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له حسبان (٣) ، فلما سار عليه غير كثير
__________________
(١) خبر بلعم مصدره كتب الأقدمين.
أخرجه الطبري ١٥٤٣١ عن المعتمر عن أبيه بنحوه و ١٥٤٣٣ عن محمد بن إسحاق عن سالم أبي النضر بنحوه.
وانظر تفسير ابن كثير (٢ / ٣٣٣ ، ٣٣٤) وهو من الإسرائيليات.
__________________
(١) في المطبوع وط «أخذ».
(٢) في بعض النسخ «بلعم» وكل ذلك ورد عن أئمة التفسير.
(٣) في المطبوع «حسان» وفي المخطوط «جبان» والمثبت عن ط ، والطبري ١٥٤٣٣.