البالغون (١) في العلم منهم أولو البصائر ، وأراد به الذين أسلموا من علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ، (وَالْمُؤْمِنُونَ) ، يعني : المهاجرون والأنصار ، (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، يعني : القرآن ، (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، يعني : سائر الكتب المنزلة ، (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ، اختلفوا في وجه انتصابه ، فحكي عن عائشة رضي الله عنها وأبان بن عثمان : أنه غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب و «المقيمون الصّلاة» وكذلك قوله في سورة المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] ، وقوله (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] قالوا : ذلك خطأ من الكاتب (١). وقال عثمان : إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيّره؟ فقال : دعوه فإنه لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا (٢).
وعامة الصحابة وأهل العلم على أنه صحيح ، واختلفوا فيه ، قيل : هو نصب على المدح ، وقيل : نصب على إضمار فعل تقديره : أعني المقيمين الصّلاة وهم المؤتون الزكاة ، وقيل : موضعه خفض ، واختلفوا في وجهه ، فقال بعضهم : معناه لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصّلاة ، وقيل : معناه يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصّلاة ، ثمّ قوله : (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) رجوع إلى النسق الأوّل ، (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) ، قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء والباقون بالنون.
(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
__________________
(١) خبر عائشة منكر. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص (١٦٠ ـ ١٦١) والطبري ١٠٨٤٣ من طريق أبي معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عنها ، وهذا إسناد رجاله ثقات ، لكن في رواية أبي معاوية ، عن هشام اضطراب إلى عائشة ، أبو معاوية هو محمد بن خازم ، ويحمل هذا على اجتهاد من عائشة رضي الله عنها ، والجمهور على خلافه ، وهذا إن ثبت عنها ذلك ، وهو شاذ بل منكر ، وخبر أبان بن عثمان أخرجه الطبري ١٠٨٤٢ وعلقه أبو عبيد ص ١٦١ ـ ١٦٢ عن حماد بن سلمة ، عن الزبير قال : قلت لأبان بن عثمان بن عفان .... فذكره. وإن ثبت عن أبان فهو رأي ، وهو مطّرح ليس بشيء.
(٢) لا يصح مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص (١٥٩ ـ ١٦٠) ح ٢٠ / ٤٩ وابن أبي داود في «المصاحف» ص (٤٢) كلاهما عن الزبير بن خرّيت ، عن عكرمة ، وهذا مرسل ، فهو ضعيف ، وأخرجه ابن أبي داود ص ٤١ عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي ، وهذا معضل مع جهالة القرشي هذا ، وكرره من وجه آخر ، عن قتادة ، وهو مرسل ومع إرساله فيه من لم يسمّ ، وكرره ص ٤١ ـ ٤٢ من وجه آخر عن قتادة ، عن نصر بن عاصم الليثي ، عن عبد الله بن خطيم ، عن يحيى بن يعمر ، عن عثمان به ، وهذا إسناد ضعيف لجهالة بن خطيم هذا ، وهذه الروايات جميعا واهية لا تقوم بها حجة وهذا الخبر باطل لا أصل له عن عثمان ، والذي صح في ذلك ما أخرجه البخاري ٤٩٨٤ عن الزهري ، عن أنس ، قال : فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف ، وقال لهم : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن ، فاكتبوها بلسان قريش ، فإن القرآن أنزل بلسانهم ففعلوا» وهو بعض حديث اختصره البخاري في هذه الرواية ، وكرره ٤٩٨٧ عن أنس ، عن حذيفة بن اليمان فذكر حديثه ، وفيه «وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا ....» فهذا الذي صح عن عثمان رضي لله عنه ، وهو يدفع ما تقدم ويبطله ، فإن عثمان بن عفان قد اختار ثلاثة من قريش وهم أفصح العرب ، وأمر زيدا أن يكتب بلغتهم ـ أي لغة قريش ـ كل ما اختلفوا فيه ، فإذا عثمان لم يترك شيئا لمن بعده من العرب ، وهل هناك أفصح من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم آنذاك أم هل يخفى لحن على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويسكتون على ذلك ، وقد كان أبي بن كعب يقوم فيهم رمضان وهم متوافرون؟!.
__________________
(١) في المطبوع وحده «المبالغون».