وكهلا أي : حليما ، والعرب تمدح الكهولة ، لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن واستحكام العقل وجودة الرأي والتجربة ، (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، أي : هو من العباد الصالحين.
(قالَتْ رَبِ) يا سيدي ، تقوله لجبريل ، وقيل : تقول لله عزوجل ، (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ولم يصبني رجل ، قالت ذلك تعجّبا إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد ولد لا أب له ، (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً) ، أراد كون الشيء ، (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، كما يريد ، قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ) ، قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب بالياء ؛ لقوله تعالى : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ، وقيل : ردّه على قوله : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ).
(وَيُعَلِّمُهُ) ، وقرأ الآخرون بالنون على التعظيم ، كقوله (١) تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٤٤] ، قوله : (الْكِتابَ) ، أي : الكتابة والخط ، (وَالْحِكْمَةَ) : العلم والفقه ، (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) علّمه الله التوراة والإنجيل.
(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩))
(وَرَسُولاً) ، أي : ونجعله رسولا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ، قيل : كان رسولا في حال الصبا ، وقيل : إنما كان رسولا بعد البلوغ ، وكان أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهماالسلام ، فلما بعث قال : (أَنِّي) ، قال الكسائي : إنما فتح لأنه أوقع الرسالة عليه ، وقيل : معناه بأني (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ، علامة ، (مِنْ رَبِّكُمْ) ، تصدق قولي ، وإنما قال بآية وقد أتي بآيات لأن الكل [من ذلك الآيات](٢) دلّ على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة ، فلما قال ذلك عيسى عليهالسلام لبني إسرائيل قالوا : وما هي؟ قال : (أَنِّي) ، قرأ نافع بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الباقون بالفتح على معنى بأنّي (أَخْلُقُ) ، أي : أصوّر وأقدر ، (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) ، قرأ أبو جعفر «كهيئة الطائر» ، هاهنا وفي المائدة ، والهيئة الصورة المهيّأة من قولهم : هيأت الشيء إذا قدرته وأصلحته ، (فَأَنْفُخُ فِيهِ) ، أي : في الطير (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) ، قراءة الأكثرين بالجمع ، [لأنه خلق طيرا كثيرا](٣) ، وقرأ أهل المدينة ويعقوب «فيكون طائرا» على الواحد هاهنا وفي سورة المائدة ، ذهبوا إلى نوع واحد من الطير ، لأنه لم يخلق غير الخفاش ، وإنما خصّ الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا لأن له ثديا وأسنانا ، وهي تحيض ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميّتا ليتميّز فعل الخلق من فعل الخالق [تعالى] ، وليعلم أن الكمال لله عزوجل ، قوله تعالى : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) ، أي : أشفيهما وأصححهما ، واختلفوا في الأكمه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : هو الذي ولد أعمى ، وقال الحسن والسدي : هو الأعمى ، وقال عكرمة : هو الأعمش ، وقال مجاهد : هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، (وَالْأَبْرَصَ) هو الذي به وضح ، وإنما خصّ هذين لأنهما داءان عياءان وكان الغالب في
__________________
(١) في المخطوط «لقوله».
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) العبارة في المخطوط «على أنه طيور كثيرة».